المخرج فايق جرادة و«ضايل عنا عرض»: فيلم يعزف على لحظات الفرح الفلسطيني

لم يعد تعريف النجاح في الفيلم مرتبطًا بالعناصر التجارية أو بالتصنيفات النقدية التقليدية بل بمدى قدرة الفيلم على إيصال رسالته وطرح رؤيته وإثارة الأسئلة التي يريدها صانعه.

فالفيلم الذي يحدث أثرًا لدى جمهوره حتى لو كان بسيط الأدوات أو محدود الإنتاج هو فيلم ناجح بمعايير السينما المعاصرة خصوصًا في ظل التحولات التي يشهدها الفيلم الوثائقي عربيًا وفلسطينيًا على وجه الخصوص.

لقد ازداد حضور الفيلم الوثائقي في السنوات الأخيرة باعتباره الوسيلة الأكثر قدرة على التقاط الواقع وتقديمه بوضوح وشفافية ، ولأن الجمهور بات أكثر بحثًا عن الحقيقة وقريبًا من لغة الصدق التي يقدّمها الوثائقي مقارنة بالأشكال السينمائية الأخرى ولعل التحولات السياسية والاجتماعية التي عاشتها المنطقة العربية مؤخراً من ثورات وانتفاضات وصراعات جعلت الوثائقي بوصلة بصرية لفهم ما يجري ومساحة للتأمل والتوثيق ومساءلة السرديات.

وفي الحالة الفلسطينية كان الوثائقي خيارًا فرضته الضرورة النضالية والموضوعية إذ كانت البدايات السينمائية الفلسطينية بامتياز وثائقية أو تسجيلية وقد شكّلت قاعدة الذاكرة البصرية لنضال الشعب الفلسطيني ونقلت معاناته ورؤيته للعالم بلغته الخاصة.

العرض العالمي الأول

ضمن هذا السياق كان حضوري مع مجموعة من الزملاء لمشاهدة العرض العالمي الأول للفيلم الوثائقي الطويل ضايل عنا عرض ضمن عروض الجالا في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الـ46 لم يكن مجرد مشاهدة لفيلم بل كان الدخول في تجربة فنية وإنسانية شديدة الخصوصية. فالفيلم وهو إنتاج فلسطيني–مصري مشترك قدّمته المخرجة مي سعد في أولى تجاربها الطويلة في الوثائقي بالشراكة مع المخرج الفلسطيني أحمد الدنف ليكشفا معًا جانبًا آخر من الحياة في غزة بعيدًا عن الصورة النمطية للحرب والدمار.

يقدّم الفيلم حكاية فرقة سيرك غزة الحر تلك المجموعة من الشباب الذين وجدوا في فنهم وسيلة لمقاومة الإبادة وإعادة تشكيل معنى الحياة بداخلهم وفي محيطهم، لا يذهب الفيلم إلى التوثيق المباشر أو الخطاب السياسي بل ينطلق من الإنسان ، من الجسد من الحركة من الضحكة الصغيرة في عالم ينهار ليصنع إطارًا بصريًا يواجه الموت بالحياة ويقاوم القبح بالفن

تتنقّل الكاميرا معهُم بين مدارس مهدّمة وشوارع ضيقة وركام ثقيل لكنها لا تبحث عن الصورة الصادمة بل عن العلاقة بين الجسد والمكان بين الحركة والدمار بين الطفل والفنان.

توازن بين الصمت والموسيقى

يتميّز الفيلم بقدرة لافتة على خلق توازن بين الصمت والموسيقى الخافتة في بناء صوتي يتيح للمشاهد الدخول في عالم الشخصيات دون افتعال أو مبالغة، فاللغة السمعية هنا تشكّل جزءًا من المعالجة الفنية إذ تستخدم المساحات الصامتة للتأمل ولإبراز ثقل الخسارات الشخصية لكل فرد في الفرقة بينما تأتي الموسيقى كجسر بين المشاهد والانفعالات الداخلية للشخصيات، خصوصًا في اللحظات التي يتحوّل فيها الألم إلى أداء فني وإلى محاولة لاستعادة القدرة على الفرح.

تتعدد القصص داخل الفيلم دون أن يفقد انسجامه الداخلي فلكل شخصية مأساتها الخاصة من فقدان أفراد العائلة إلى النزوح إلى الجروح العميقة التي لا ترى

ورغم هذا التنوع يحتفظ الفيلم بخيط سردي واحد الفن بوصفه فعل مقاومة وهذا الاشتغال الدراماتورجي يمنح الفيلم قوته إذ يبتعد عن النهج التقريري ويقترب من السينما التأملية التي تمنح كل مشهد الوقت لكي يبوح بما يريد دون أن يفرض عليه معنى جاهز.

مساحة حياة

ورغم أن الفيلم يوثق تجربة فرقة سيرك تعيش في قلب الحرب فإنه لا يقدّم غزة بوصفها مكانًا للدمار فقط بل يكشف أنها مساحة حياة وأن البشر فيها ليسوا ضحايا فحسب بل مبدعون ومقاتلون بالجمال يصرّون على حفظ إنسانيتهم وصناعة الفرح رغم كل ما يراد لهم.

وهنا تكمن قوة الفيلم الأساسية قدرته على كسر الصورة الإعلامية التقليدية لغزة واستبدال خطاب الشفقة بخطاب الكرامة.

نجاح الفيلم في التفاعل مع جمهور مهرجان القاهرة وترشّحه لجائزة الجمهور لم يكن نتيجة الموضوع وحده بل لتمكّن صانعيه من تقديم معالجة سينمائية صادقة واشتغال بصري وإنساني ناضج يتجاوز التوثيق نحو بناء رؤية فنية كاملة تجربة مي سعد الإخراجية الأولى تظهر ثقة في أدواتها ورغبة في البحث عن لغتها الخاصة فيما يواصل أحمد الدنف تقديم بعد فلسطيني أصيل في تكوين الصورة وتوجيه الحالة الإنسانية داخل المشاهد.

ضايل عنا عرض ليس مجرد فيلم عن سيرك فلسطيني ولا محاولة لالتقاط لحظات من الحرب بل هو شهادة بصرية على قدرة الإنسان الفلسطيني على تحويل الحياة إلى فن والفن إلى مقاومة والمقاومة إلى أمل عنيد ، إنه فيلم يعيد التأكيد على أن الفرح حق فلسطيني وأن الصوت الذي يصل للناس هو وحده الذي يستحق أن يسمى فيلمًا ناجحًا