شكّل حضور المخرج التركي العالمي نوري بيلجي جيلان في الدورة الـ46 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي حدثًا خاصًا، ليس فقط لكونه رئيس لجنة التحكيم الدولية، بل لأن وجوده يفتح نافذة حقيقية لفهم أحد أكثر الأصوات السينمائية تأمّلًا وعمقًا في السينما المعاصرة.
الندوة التي أداراها الناقد السينمائي أحمد شوقي رئيس الإتحاد الدولي للنقاد الدوليين “فيبيرسي” حملت عنوان «انعكاسات سينمائية: رحلة في عوالم نوري بيلجي جيلان» لم تكن مجرد لقاء عابر، بل كانت بمثابة مدخل إلى مختبره الفكري، حيث تتحول التفاصيل اليومية إلى أسئلة كبرى حول الوجود، والإنسان، والمعنى.
سينما تنطلق من رؤية فلسفية لا تتجزأ
أكد جيلان منذ اللحظة الأولى أنّ الفوتوغرافيا والسينما بالنسبة له ليستا فنّين منفصلين، بل تعبيران عن رؤية واحدة. هذا التصور يجعل من الصورة، سواء كانت ثابتة أو متحركة، وسيلة لـ”النبش” في أعماق الذات الإنسانية، والقبض على ما يسميه بـ «الجوهر الخفي» للحياة، إن حديثه عن “عدم تجزؤ الفن” يكشف عن بنية فكرية تعامل الصورة باعتبارها فعلاً للتأمل، لا للتوثيق فحسب، وهذا ما يفسّر هدأة أفلامه، وتكويناتها الدقيقة، ونزعتها الفلسفية التي تستدعي صبرًا ووعيًا في التلقي.

التفاصيل .. نافذة على جوهر التجربة الإنسانية
يحمل أسلوب جيلان بصمة بصرية واضحة: حركة كاميرا متأنية، ضوء محسوب بدقة، زمن ممتد، ومشاهد تبدو للوهلة الأولى بسيطة لكنها تنطوي على شحنات كثيفة من المشاعر والصراعات الداخلية، حين يقول: «السينما فرصة لتسجيل لحظات الحياة الدقيقة» فهو يشرح جوهر مشروعه : أن التفاصيل الصغيرة – نظرة، صمت، ثلج يتساقط – قد تحمل من الدلالات ما لا تحمله القصص الكبرى، بهذا المعنى، تحوّلت سينماه إلى مرايا حقيقية للتجربة الإنسانية، لا تقدّم إجابات، بل تترك المشاهد أمام تساؤلات مفتوحة.
انعدام المعنى… كشرط جمالي
من أبرز ما يكشفه جيلان في هذه الندوة هو علاقته الوجودية بالحياة: « أرى الحياة بلا معنى كبير… ولا آخذ الأشياء بجدية».، هذه الجملة، التي قد تبدو صادمة، هي مفتاح لقراءة عالمه. فهو يقترب من الشخصيات من زاوية هشاشتها، تناقضاتها، وعجزها عن فهم العالم. هذا الشعور بـ”لا معنى الأشياء” لا يقوده إلى العبث، بل إلى نوع من الحكمة الهادئة، التي تمنحه القدرة على ملاحظة ما يغفله الآخرون.
العلاقة بالممثلين: بين الثقة والشك
تبدو علاقة جيلان بالممثلين شديدة الحساسية؛ فهو يطلب منهم حفظ الحوار جيدًا، لكنه في الوقت نفسه يشك طوال الوقت، ويخشى إعادة التعديلات مرارًا حتى لا “يكره الفيلم”، هذه الازدواجية بين الثقة والقلق هي جزء من طبيعته الفنية، التي ترى العمل السينمائي فعلًا هشًّا قائمًا على الحدس، لا على السيطرة الكاملة.

الإذلال والاختبار الدرامي العميق
يعترف جيلان بأن الإذلال واحد من أكثر العناصر تأثيرًا دراميًا، رغم كراهيته له. فهو لحظة تكشف الطبقات الدفينة للشخصيات، وتفتح للسينما مجالاً لاستكشاف “الإنسان” حين يُدفع إلى حافته القصوى، وهو هنا يواصل تراثًا سينمائيًا عريقًا في تحليل المأساة الإنسانية، لكنه يقدّمه بنبرة شخصية خاصة، تجنّب أفلامه الميلودراما، وتستبدلها بواقعية تأملية كاسرة.
البدايات الفوتوغرافية… وحنين البساطة
حديثه عن بداياته المنعزلة في التصوير الفوتوغرافي يكشف عن جوهر شخصيته: إنسان شديد الانطواء، وجد في الصورة وسيلة للغة لا تحتاج إلى الآخرين,, تحوّله إلى السينما كان نتيجة سؤال جوهري: هل يمكن صناعة فيلم كما تُلتقط صورة؟ ، هذه الفكرة التأسيسية هي ما جعلت سينماه مختلفة. فهي لا تعتمد على الحبكات المعقدة أو الكتل الإنتاجية الضخمة، بل على نظرة فنان يراقب العالم بعيون شاعر.
تحديات الصناعة اليوم… وانكسارات جيل الفنانين
حين يتحدث جيلان عن صعوبة الإنتاج اليوم مقارنة بالماضي، فهو يعكس أزمة عالمية تعيشها السينما الفنية: أفلام تنتج بجهد عامين وتباع بنصف قيمتها، ومهرجانات قد لا تحبها، وجمهور أصبح أكثر انجذابًا للسينما السريعة، هذا الاعتراف لا يأتي من موقع الشكوى، بل من موقع الحزن على عالم سينمائي يتغير دون أن يمنح المبدعين المساحة نفسها.

القاهرة… وجسر الحوار بين الثقافات
لا يمكن فصل هذه الندوة عن سياقها داخل مهرجان القاهرة السينمائي. فالمهرجان هنا لا يضيء فقط على رمز عالمي، بل يعزز الحوار بين سينما الشرق والغرب، ويعيد التأكيد على دور القاهرة كمساحة ثقافية تتسع لأسئلة الفن والهوية والإنسان.
تكشف هذه الندوة أن نوري بيلجي جيلان ليس مجرد مخرج، بل صاحب مشروع فلسفي متماسك يرى السينما باعتبارها مرآة للروح البشرية. العالم عنده لا يُقرأ من خلال الأحداث الكبرى، بل من خلال الهامش، ومن خلال لحظات الصمت التي تحمل ما هو أعمق من الكلماتـ، إنه سينمائي يلتقط المعنى في اللا معنى، ويحوّل التفاصيل العابرة إلى مداخل لفهم الذات والعالم.
في مهرجان القاهرة، لم يقدّم جيلان درسًا في الإخراج فقط، بل فتح بابًا واسعًا للتفكير في سؤال الفن نفسه: كيف يمكن للصورة أن تكشف ما لا يقال؟ وهنا تكمن قيمة حضوره… وقيمة السينما ذاتها.
