لحظة تألق في «القاهرة السينمائي»… محمود عبد السميع يفتح خزائن الضوء

تأتي شهادة مدير التصوير الكبير محمود عبد السميع في ندوة تكريمه بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي ، التي أدارها الناقد رامي المتولي ، ليس بوصفها استعادة لرحلة مهنية فحسب، بل باعتبارها درسًا في فلسفة الصورة السينمائية، وفي الدور الجوهري الذي يلعبه مدير التصوير داخل المنظومة الفنية، بوصفه شريكًا أصيلاً في كتابة لغة الفيلم وليس مجرد منفذ تقني لتوجيهات المخرج.
الندوة – بما حملته من ذكريات وتفاصيل حرفية – كشفت عن صيغة نادرة من الوعي والبصيرة المهنية، شكلت عبر عقود طويلة شخصية عبد السميع المهنية، ورسّخت مكانته كواحد من أكثر مديري التصوير تأثيرًا في الواقعية الجديدة والسينما المصرية عمومًا.

العلاقة مع المخرج

عندما تحدّث عبد السميع عن العلاقة بينه وبين المخرج، مستخدمًا لفظ «النسبية»، بدا كأنه يعيد تعريف حدود السلطة داخل الفيلم. فالعلاقة ليست ثابتة ولا خاضعة لهرمية مغلقة، بل تتشكل وفق رؤية المخرج وقدرة مدير التصوير على تحويل هذه الرؤية إلى بنية ضوئية وبصرية متماسكة.

استشهاده بتجربة فيلم «للحب قصة أخيرة» مع رأفت الميهي – حين طُلب منه تنفيذ حركة كاميرا 360 درجة باستخدام أكثر من 90 كشاف إضاءة – يؤكد أن الإبداع ليس في وضع اللقطة فقط، بل في ابتكار حلول تقنية لاستيعاب فكرة المخرج دون أن تُفقد الصورة منطقها أو جمالها ، هنا يظهر عبد السميع صانعًا للغة وليس مجرد موظف تقني.

مشروع عن القضية الفلسطينية

إشارته إلى المشروع المؤجل مع رأفت الميهي حول القضية الفلسطينية ليست مجرد تفصيلة تاريخية، بل تكشف عن اهتمامه بالصورة كمساحة لفهم الحدث السياسي والاجتماعي ، التعديلات التي طلبها بعد قراءة السيناريو تدل على أنه لا يتعامل مع النص كمساحة تصويرية جامدة، بل كحكاية تحتاج إلى صياغة بصرية تليق بثقل موضوعها ، إنها مرحلة نادرة من الشراكة بين النص والصورة، حيث تتغير الفكرة نفسها تأثرًا بالبعد البصري.

الابتكار تحت ضغط الإمكانيات

في زمن لم تكن التقنيات فيه متاحة بسهولة، قدّم عبد السميع بعضًا من أكثر التجارب إثارة في التصوير المصري، خصوصًا في فيلم «التعويذة». استخدامه لعدسة غير دارجة وصناعته لوحًا خشبيًا متحركًا لحركة «الجن» داخل مشاهد الفيلم يوضح: أن الخيال التقني جزء أصيل من الإبداع السينمائي وأن محدودية الإمكانيات لم تكن عائقًا أمام الحرفة، بل حافزًا للابتكار.

هذه الروح هي ما جعلت «التعويذة» مختلفًا بصريًا عن أفلام الرعب في تلك الحقبة، وقدّم صورة مصرية أصيلة دون استنساخ النماذج الغربية.

المكان شريك في المعنى

حين يقول عبد السميع: «مكان التصوير بالنسبة لي عنصر أساسي» فهو يعلن فلسفة كامنة وراء كل مشهد ، المكان ليس مجرد خلفية، بل محرّك درامي يؤثر في الممثل والضوء والزمن والإحساس اللوني.

لذلك لا يفصل بين المكان والمواسم، ولا بين السيناريو والمشهد، فالصورة نتيجة تفاعل كل عناصر الواقع. هذا الوعي هو ما منحه قدرة نادرة على جعل الضوء جزءًا من الحكاية، لا مجرد إضاءة تقنية.

الإضاءة كلغة… والليل بوصفه زمنًا بصريًا

توقفه عند تجربته في فيلم «امرأة متمردة» أو اهتمامه في «الجوع» بتعاقب الليالي بين قمر وهلال وليالٍ مظلمة، يكشف نظرته للضوء بوصفه حرفًا لغويًا في جملة بصرية كاملة ، في «الجوع» على سبيل المثال، لم يكن الضوء مجرد إضاءة ليلية، بل علامة زمنية تتابع تطور الأحداث ، هنا تتجلى قدرة مدير التصوير على جعل الإضاءة تحكي، وتكمل ما لا يقوله الحوار.

من الكاميرا الأولى إلى قيادة الأجيال

يحكي عبد السميع أول تجربة له مع كاميرا السينما عام 1961 عندما لم يكن يعرف حتى طريقة تشغيلها، لكنه ربط التطور المهني بـ«التعلم»، وبفهم تقنيات التصوير التي تغيرت من الأشرطة الفيلمية الحساسة للضوء إلى التقنية الرقمية.. كلماته هنا ليست ذكريات فقط، بل درس تربوي لجيل جديد يتعامل مع التكنولوجيا بسهولة ولكنه قد يفتقد الفهم العميق لبنية الصورة ، من هنا نفهم لماذا أصبح واحدًا من أهم المعلمين والقادة في الوسط السينمائي، وصوّر أكثر من 200 فيلم وثائقي، وعمل في جبهات القتال، وشارك في حملات سينمائية عربية ، إنه مصور يؤمن أن الصورة موقف قبل أن تكون حرفة.

رفض التعاون مع بعض المخرجين

حديثه عن رفضه التعاون مع بعض المخرجين لأنه يفهم الصورة أكثر مما يستطيعون شرحه، يكشف عن مساحة حساسة في الصناعة: مدير التصوير ليس مجرد منفّذ، بل مبدع يحتاج إلى مخرج قادر على التواصل ، هذا الرفض لم يكن تحديًا، بل حماية للعمل، لأن التضارب بين الرؤية والتنفيذ ينتج صورة مشوهة أو بلا روح.

تكريم محمود عبد السميع لم يكن مجرد اعتراف بمسيرة طويلة، بل احتفاء بـ فلسفة مهنية تجمع بين: وعي فني ، ابتكار تقني ، التزام أخلاقي تجاه العمل، قدرة على تحويل الضوء والمكان والزمن إلى أدوات سردية ، إنه أحد الذين رسّخوا أن مدير التصوير شريك في كتابة الفيلم، وليس مجرد موظف في الكواليس، ولذلك تبدو شهادته في الندوة توثيقًا لمدرسة كاملة في السينما المصرية، مدرسة ترى الصورة باعتبارها حياة كاملة تبنى من فهم النص والحدث والإنسان… قبل أن تبنى بالكاميرا