في دورته الثامنة، التي تنطلق الخميس القادم بمدينة الجونة علي ساحل البحر الأحمر ، يقدّم مهرجان الجونة السينمائي مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة بتشكيلة لافتة من الأعمال القادمة من قارات مختلفة، تجمع بين التجارب الحميمية والهموم السياسية، لتؤكد مجددًا أن الوثائقي لم يعد مجرد سجل جامد للواقع، بل مساحة خصبة للابتكار الجمالي والفكري، وساحة للتفكير في الذات والعالم
ومن خلال قراءة متأنية في الملف الصحفي للأفلام المشاركة في المسابقة، والتي تضم 12 فيلما نجدها تتوزع بين ما هو ذاتي عميق وما هو عام وإنساني ، ففيلم «50 متر» للمخرجة المصرية يمنى خطاب يقترب من العلاقة المتوترة مع الأب، في محاولة لفهم المسافة بين الحميمي والوجودي، بينما يعود نمير عبد المسيح في «الحياة بعد سهام » إلى الأم كرمز خالد يتجاوز الموت ويتحدى الغياب
وفي «أيتها الريح، حدّثيني» للصربي ستيفان ديورجيفيتش، تتحول الكاميرا إلى وسيط عاطفي يوثق علاقة الابن بأمه من خلال تجربة عائلية تشاركية أمام العدسة ، هذه الأفلام تجعل من الوثائقي أداة علاجية ومجالًا لإعادة اكتشاف الروابط المفقودة بين أفراد العائلة والذاكرة الشخصية.
في المقابل، تنفتح أعمال أخرى على قضايا كبرى تمسّ الوجود الإنساني والمجتمعات المنكوبة، ففيلم «أورويل: 2+2=5» للمخرج راؤول بيك يعيد قراءة فكر جورج أورويل في ضوء أزمات الحاضر: الرقابة، الحقيقة الزائفة، وانهيار القيم الديمقراطية، بينما يعود عباس فاضل في «حكايات الأرض الجريحة» إلى جنوب لبنان بعد الحرب، ليرصد جراح المكان والإنسان.
أما في «كابول، بين الصلوات»، فنرى يوميات جندي أفغاني صغير ممزق بين وعود طالبان وحياته البسيطة، فيما يحوّل فيلم «كيف تبني مكتبة» مبادرة ثقافية في نيروبي إلى مواجهة حية مع إرث الاستعمار والتمييز الطبقي.
أشكال جديدة
لا تكتفي هذه الأفلام بتقديم موضوعاتها، بل تبحث عن أشكال جديدة للسرد الوثائقي: المزج بين الأرشيف والأداء المتخيل كما في «الساهرون»، أو استدعاء الشعر والذاكرة البصرية في «دائمًا»… أما فيلم «من الأفضل أن تجنّ في البرّية»، الحائز جائزة الكرة الكريستالية في كارلوفي فاري، فيتعامل مع حكاية توأمين يعيشان في عزلة برية كدراما نفسية على تخوم السينما الروائية.
رغم تباين الجغرافيا والثقافات، تتقاطع الأفلام في عدد من الثيمات المركزية: الذاكرة والغياب: الأب، الأم، الطفولة، الموت..الهوية والانتماء: بين المنفى والمهجر والإرث الاستعماري.. المجتمعات بعد الحرب: من لبنان إلى أفغانستان وكينيا..الطبيعة كحاضنة للسرد: من ريف الصين إلى الغابات الأوروبية.
معني الوثائقي
الروح العامة للمسابقة تكشف انحيازًا واضحًا للسينما كفعل مقاومة للنسيان والخراب. فهذه الوثائقيات لا تكتفي بالتسجيل أو الرصد، بل تعيد صياغة العلاقة بين الفرد وماضيه، وبين المجتمع وجراحه، وتطرح في الوقت ذاته سؤالًا وجوديًا عن معنى الوثائقي في زمن الأزمات والهشاشة الإنسانية
من خلال هذه التشكيلة، يواصل مهرجان الجونة رهانه على سينما وثائقية جريئة ومتحررة، لا تكتفي بالتأريخ بل تسعى إلى صناعة ذاكرة جديدة – شخصية وجماعية- وتفتح الباب أمام أشكال سردية أكثر حرية وابتكارًا.. إنها وثائقيات تقاوم الزوال، تخاطب الحاضر وهي مشغولة بالمستقبل، وتؤكد أن السينما الوثائقية اليوم ليست مجرد مرآة للعالم، بل أداة لإعادة تخيّله