عبدالستار ناجي
ضمن عروض المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في دورته ال 78 لعام 2025 يأتى الفيلم الفرنسي «ألفا» للمخرجة جوليا دوكورناو الحاصلة على السعفة الذهبية عام 2021 عن فيلم ” تيتان” وهي بالمناسبة ثاني إمرأة تفوز بالسعفة الذهبية بعد الأسترالية جين كامبيون عن التحفة “درس بيانو ” .
وفي هذه التجربة كما في جملة أعمالها الروائية السابقة تشتغل جوليا دوكورناو على معادلة الاستعادة والتكرار للحدث من زواية ووجهات نظر متعددة وهي في فيلمها الاخير «ألفا» تشتغل على هذة الجانب حيث المبالغة في مداها ومذهل ..
واذا كانت في فيلم ” تيتان ” اشتغلت على موضوع الصدمة والدهشة والإبهار فهي هنا تشتغل على ذات النهج حيث الصدمة والإبهار جنبا الى جنب في نسق فني احترافي رفيع المستوى . واذا كان البعض يري في ان الفيلم ظل حبيس – التكرار – فاننا امام مخرجة تري في هذا الجانب سرا من اسرار مقدرتها على المحافظة على ايقاع العمل ومضامينه واثراء شخوصة التى تتحرك في اتجاهات متباينة.
وقبل نبدأ الفيلم تعالوا نعود الى الوراء قليلا لنري جوانب من مسيرة هذة القامة السينمائية الفرنسية المبدعة ، ففي فيلمها الاول “راو” 2016، يجسّد مرحلة بلوغ سن الرشد، مزيجًا من الجنون والضبط في آنٍ واحد، فيما انطلق فيلمها الثاني “تيتان” بجماعٍ مثيرٍ في السيارة، ثم ازداد جنونًا، إن كان هذا ممكنًا، بدا الأمر كما لو أنه ثلاثة أو أربعة أفلام في آنٍ واحد، تروى جميعها في وقتٍ واحد وبأعلى صوتٍ ممكن.
كان “تيتان” أشبه بمجموعةٍ موسيقيةٍ من منسقة أغاني تبذل قصارى جهدها للسيطرة على حلبة الرقص، وترفع الصوت إلى أقصى حدٍّ في كل مرة، وتغيّر التسجيلات في منتصف كل أغنية لإبقاء الجمهور مستيقظًا، ومتنبها بل ومتوترا .
تطبّق المخرجة نفس النهج على فيلم “ألفا”، وهو فيلمٌ مبالغٌ فيه بشكلٍ صريح يستحضر في عصر الإيدز، يقدّم الكثير من الأفكار الجديدة، مقدّمًا إياها بمشاهد دمويةٍ غزيرة، ومؤثرات بصرية، وفواصل موسيقيةٍ مفعمةٍ بالحيوية، وأداءٍ تمثيليٍّ مُتميّز.
قد يثير الفيلم الإعجاب بأصالته المطلقة وخبرته التقنية، لكن هناك الكثير من الأحداث الجارية لفترةٍ طويلةٍ لدرجة أن المشاهد العادي -غير الناقد المتخصص – قد يصاب بالممل ،لا بد من منح دوكورناو الفضل لرفضها الاستقرار أو اتخاذ طريق هوليوود بعد فوزها بالسعفة الذهبية، ولكن لا بد من التساؤل أيضاً عما إذا كان فيلمها الأخير سوف يرضي أي شخص غيرها.. انها تشتغل باسلوبها وطريقتها دون ان تلتفت للاخرين واغراءات الانتاج .
يعرض فيلم «ألفا» حكاية مرضٌ خياليٌّ رمزيٌّ اعطاء الفرصة للمخرجةٍ بإعادة النظر في صدمة ومأساة أزمة الإيدز.
«ألفا» هو بلا شك الفيلم الأكثر إزعاجاً من بين هذه الأفلام التى قدمت من ذي قبل حول ذلك المرض ، فهو واضح تماماً وغير واضح بشكل مثير للغضب في آن واحد، حيث تتخذ بطلته – الفا – فتاة تبلغ من العمر 13 عاماً (ميليسا بوروس) تعود إلى المنزل من حفلة ومعها كعكة محلية الصنع بدائية بعد ان قام احدهم برسم تاتو على يدها عبر ابره مستخدمة من ذي قبل حيث شكل ذلك الامر علامة استفهام عند والدتها .التى تظل تتسأل كيف كانت الإبرة؟ هل كانت نظيفة أم متسخة؟ تطلب والدة ألفا (الممثلة الايرانية الاصل جولشيفته فراهاني) أن تعرف، وعقلها يتسابق إلى الفيروس الذي حوّل شقيقها مدمن المخدرات، أمين (طاهر رحيم – جزائري الاصل )، إلى تمثال من الرخام قبل حوالي ثماني سنوات، هذا ما يفعله هذا المرض تحديدًا، مما يتسبب في سعال ضحاياه مسحوقًا طباشيريًا بينما تتحول أجسادهم ببطء إلى حجر. كانت ألفا في الخامسة من عمرها عندما أصيب أمين، وبالكاد تستطيع تذكره الآن، حيث تخلط الذكريات – اختارت المخرجة اللون الاحمر الذهبي مع مشاهد القلق ذات اللون الأزرق التي جلبها خوفها الحالي من الفيروس. كلهم مختلطون معًا كـ “أحلام داخل أحلام”، على حد تعبير القصيدة التي تسمعها ألفا في فصل اللغة الإنجليزية. كل شئ عند المخرجة والفيلم يعتمد على تداخل الاحلام والاحداث والشخصيات ضمن ازمنة على المشاهد ان يرصدها وان لا تفلت من بين يدية .
خوفًا من أن تكون ابنتها مصابة، سارعت والدة ألفا – وهي طبيبة متخصصة في علاج هذه الحالة المنتقلة بالدم – إلى العيادة لتلقي لقاح خاص وإجراء فحوصات دم. لكن في أواخر التسعينيات، كان عليهم الانتظار عدة أسابيع للحصول على نتيجة أدق. في هذه الأثناء، يبدو أن جميع طلاب صف ألفا في المدرسة يفترضون أنها مصابة… ولكن لماذا؟ نعم، يمكن أن ينتقل فيروس نقص المناعة البشرية عن طريق الإبر الملوثة، مع أنني لا أتذكر أن أحدًا قد نبذ لمجرد رسم وشم في التسعينيات.
وتتداخل الازمنة بايقاع تحكمة الموسيقي واللقطات التى تعتمد التحليل العميق للشخصيات والاحداث ، في فيلمي “رو” و”تايتان”، أجبرت دوكورناو الجمهور أيضًا على التحديق في زوايانا الانسانية المظلمة والمتعفنة، تخنقنا دوكورناو بتصميمها الصوتي المرتفع للغاية، وتستحضر بفعالية جنون العظمة الغامض في التسعينيات، وكان النزيف عادي في مسبح عام يثير الذعر.. ويجعل الاطفال يهربون من المسبح .
ويبقي أن أقول أن عملية التحجر السريالية في الفيلم تمثل اضافة رائعة الجمال، لدرجة أنها تقوّض، دون قصد، الأهوال التي سبقتها، مقدّمةً صورةً مطهّرةً تغلّف ناقوس الكابوس الذى اقرعه دوكورناو.. مشيرة الى خطر يكمن خلف الابواب .