«مخرجو الألفية الثالثة» .. جيلٌ أعاد رسم ملامح المسرح المصري

يأتي كتاب «رؤى وتجارب ووهجٌ آسر ..مسرح الألفية الثالثة» للكاتب والناقد باسم صادق بوصفه وثيقة فنية وفكرية تفتح نافذة واسعة على تحولات المسرح المصري خلال ربع القرن الأول من الألفية الثالثة، مسلطًا الضوء على جيل من المخرجين الشباب الذين أعادوا تشكيل الخريطة المسرحية برؤاهم وجرأتهم وتنوع أدواتهم.

وهو كتاب لا يكتفي برصد التجارب، بل يذهب أبعد من ذلك ليبحث في الأسئلة التي صنعت هذا الجيل، والظروف التي شكلت وعيه، واللغة الجمالية التي صاغت بصمته.

سياق صدور الكتاب ودلالته

يصدر الكتاب في الدورة العاشرة من مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي، دورة تمتاز بطابع الاحتفال بإنجاز عشر سنوات من العمل الدؤوب، ما يجعل الكتاب أشبه بمرآة تعكس روح المهرجان وهدفه الأصلي: دعم شباب المبدعين وتوثيق تجاربهم.

وهو أيضًا استجابة للحراك المسرحي المتسارع في مصر منذ سنة 2000، حراكٌ خلق مخرجين لا يشبهون سابقيهم؛ مخرجين يتعاملون مع المسرح باعتباره مساحة للمساءلة والدهشة والتمرد، وليس مجرد إعادة إنتاج تراث سابق.

دراسة عميقة

يرتكز الكتاب على دراسة عميقة لعدد من أبرز المخرجين الشباب الذين تركوا بصمتهم على المسرح المصري والعربي، معتمدًا على تحليل التجارب لا مجرد توثيقها، بحيث يقدّم لكل مخرج: « تكوينه الفني والفكري ، تحولاته الجمالية، أبرز عروضه وتأثيرها، موقعه داخل منظومة المسرح المصري، خصوصيته في صياغة لغة إخراجية جديدة » ، وتتميز لغة الكتاب بالتمازج بين السرد النقدي والتحليل الفني والانطباع الشخصي المدعوم بالخبرة.

ملامح التحول المسرحي

يركز الكتاب على ما طرأ من تحول في وظيفة المخرج، فجيل الألفية الثالثة تجاوز دور “قارئ النص” إلى “مؤلف للصورة”، وهو ما يظهر في تجارب أحمد فؤاد، شادي الدالي، كريمة بدير وغيرهم، الذين لا يرون المسرح مجرد خشبة، بل فضاء حيًا تكتب فيه الأفكار بالحركة والضوء والجسد.

ويبين الكتاب كيف نجح هذا الجيل في استعادة الجمهورعبر آليتين متناقضتين ومتكاملتين: مسرح التجريب والفكر ( فؤاد، عفيفي، حديني، الحضري)، المسرح الجماهيري والانفتاح على القطاع الخاص ( تامر كرم، إسلام إمام، بسيوني) .

هذه الثنائية- كما يشير الكتاب- ليست تناقضًا، بل انعكاس لمرحلة تبحث فيها الحركة المسرحية عن توازن جديد بين المتعة والمعنى .. عودة الجسد بوصفه أداة للمعنى، فمع تجارب الرقص المعاصر ومسرح الحركة- مثل كريمة بدير ومروة رضوان- يعكس الكتاب نظرية مهمة: أن الجسد لم يعد وسيطًا للدراما فقط، بل أصبح منتِجًا للمعنى.

مسرح يقرأ المجتمع

يمثل هذا الجيل عينًا فاحصة على الواقع السياسي والاجتماعي. نجد ذلك بقوة في عروض:

“رحلة حنظلة” و”رجالة وستات” (إسلام إمام)، “يوم أن قتلوا الغناء” (تامر كرم)، “رئيس جمهورية نفسه” (بسيوني)، “الإطار” و”النقطة العَميا” (أحمد فؤاد)، إنه مسرح لا ينفصل عن زمنه، بل يصنع حوارًا نقديًا مباشرًا معه.

القيمة النقدية للكتاب

يمتاز الكتاب بعدة نقاط قوة: أولا :اتساع الرؤية وتعدد المناهج، فلا يلتزم المؤلف بمنهج نقدي واحد، بل يمزج بين: التحليل البنيوي، دراسة الدلالة، قراءة السينوغرافيا ، البحث في العلاقة بين النص والجمهور، ثانيا :  ربط التجارب بسياقها التاريخي، فالكتاب لا يحلل عروضًا معزولة، بل يربطها بالتحولات الاجتماعية والسياسية التي مرت بها مصر خلال 25 عامًا.

ثالثا : تقديم صورة بانورامية عن جيل كامل، فالكتاب لا يقدم بورتريهات فردية للمخرجين فقط، بل يصنع «خريطة جيل» تكشف عن: مرجعياته الفكرية، مصادر إلهامه، أدواته، مشكلاته، إنجازاته .

رابعا:  قدرة الكتاب على فتح نقاش واسع، فالعمل النقدي لا يكتفي بالتوثيق، بل يدعو إلى إعادة التفكير في: معنى التجريب، حدود العلاقة بين الفن والجمهور، هوية المسرح في عصر التكنولوجيا

أهمية الكتاب  

يعد هذا الكتاب إضافة نوعية لأنه: يوثق ربع قرن من الحراك المسرحي، يعيد الاعتبار لجهود جيل شاب صنع تغييرًا حقيقيًا، يضع بين أيدينا مرجعًا نقديًا للباحثين والدارسين، يعكس العلاقة المتينة بين المهرجانات والبحث الأكاديمي والتوثيقي، يقدّم نموذجًا يحتذى لمهرجانات أخرى في الاحتفاء بالمبدعين عبر الكتب

خلاصة تحليلية

يقدم كتاب «رؤى وتجارب ووهجٌ آسر» قراءة معمقة لمسرح الألفية الثالثة في مصر، مسرح يتأرجح بين الحداثة والتراث، بين التجريب والجماهيرية، بين الحلم الفردي والمشهد الجماعي، إنه كتاب يضيء التجارب، لا ليضعها على الرف، بل ليحفّز الأسئلة:

كيف يمكن للمسرح أن يستمر في زمن سريع الإيقاع؟ ما معنى الإبداع في عصر الشاشات؟ وكيف يحافظ المخرج الشاب على خصوصيته وسط تحديات الإنتاج والجمهور؟ إنه كتاب لا يحتفي بالمخرجين فقط، بل يحتفي بالمسرح نفسه.. المسرح بوصفه فعلاً حيًا يرفض أن يموت