جلسة حوار الفنان خالد النبوي في مهرجان القاهرة السينمائي التي ادارها الناقد زين العابدين خيري ، لم تكن مجرد احتفاء باسم نجومي، بل كانت درسًا في الوعي الفني ومسارًا يكشف كيف ينضج الفنان عندما يدرك أنه ليس مجرد مؤدٍّ على الشاشة، بل صاحب مشروع وفلسفة.
لقد قدم النبوي نفسه في الجلسة بصراحة نادرة، حين روى أن التمثيل لم يكن حلمه الأول، لكنه جاء صدفة، ثم تحول إلى قدر مهني وروحي بعد أن التقطه المسرح من ممرات معهد لا ينتمي إليه.
هذه البداية، بكل عفويتها، تلخّص جوهر تجربته: موهبة لا تبحث عن الضوء، بل تنكشف حين تجد مساحة صادقة للعمل.
الأمانة الفنية
في حديثه بدا النبوي واعيًا بمعنى “الأمانة الفنية”، وهو ما ظهر بوضوح في موقفه من الشخصيات التي يجسدها، إذ يرفض كره أي شخصية أو التنصل منها، معتبرًا أن الممثل حين يهاجم دورًا سابقًا فهو يعلن فشله في فهمه، أو فشله في اختيار ما يناسبه، هنا يقدّم النبوي درسًا محترفًا في احترام العمل، ويضع معيارًا أخلاقيًا لصناعة يجب أن تُبنى على الوعي لا على النجومية.

كما لفت الأنظار بعلاقته بالمخرجة كاملة أبو ذكري، وهي علاقة شغف وفن متبادل اختصاره لتجربته معها بأنها “عمل بالقلب” يعكس انسجام رؤيتيهما: ممثل يبحث في التفاصيل، ومخرجة تصنع من التفاصيل عالمًا كاملًا. وهذا التلاقي يعطي تفسيرًا طبيعيًا لنجاحهما كلما التقيا.
أختيار واع
أما قلة أعماله السينمائية، فيكشف النبوي أنها ليست تعثرًا، بل اختيار واعٍ قائم على رفض التكرار. إنه يفضل عملاً واحدًا يضيف إلى رصيده على عشرات الأعمال التي تُكرر ملامحه. هنا يظهر “النبوي الباحث”، لا “النبوي النجم”، وهو موقف نادر في صناعة تميل إلى الاستسهال.
تجربته مع شاهين
استعادته لكواليس “المهاجر” وتجربته مع يوسف شاهين لم تكن مجرد حنين، بل اعتراف بفضل “المدرسة” التي شكلت رؤيته. شاهين بالنسبة له ليس مخرجًا فقط، بل بوصلة فنية جعلته يدرك معنى الاختلاف ومعنى أن تكون خارج القطيع. حديثه عن كلمة “أكشن” كسحر، يفتح نافذة على علاقة خاصة بين المخرج والممثل حين يلتقيان في مساحة واحدة من الخيال.
الوعي بالهوية
غير أن أهم ما طرحه النبوي ربما كان وعيه بالهوية، سواء في “ممالك النار” أو في مسرحيته عن السادات في أمريكا، أو حتى في معاركه الصغيرة حول الملابس في أعماله العالمية. خلف هذه التفاصيل تقف فكرة كبيرة: أن الممثل العربي سفير حضارته، وأن تقديم صورة دقيقة عن الإنسان العربي ليس ترفًا، بل ضرورة في مواجهة الصور النمطية التي تلاحق العرب في الغرب.
الحلم في الداخل
حديثه عن الهجرة، وعن أن “بلادنا جنة لا نشعر بها”، يضيف بعدًا إنسانيًا وفلسفيًا إلى رؤيته. فهو لا يرفض حلم الخارج، لكنه يرى أن الحلم الحقيقي يبدأ من الداخل، من اللحظة التي يرى فيها الإنسان قيمة وطنه قبل أن يهرب للبحث عنها في مكان آخر.
اخلاق المهنة
مع ذلك، يبقى أكثر ما يميّز النبوي هو انضباطه. تلك الجملة التي قالها بحدة: “ما ينفعش تتأخر… أنت آخذ ملايين وفي ناس بتتعب”، جملة تختصر أخلاق المهنة. وتأكيده على ضرورة امتلاك الممثل لأدواته ومشاعره يرسّخ مكانته كأحد أكثر الممثلين وعيًا بحدود المهنة وما تتطلبه من جدية.
شهادات
وجاءت شهادات مدحت العدل وكاملة أبو ذكري لتدعم الصورة ذاتها: ممثل يبحث في الشارع، يدرس الشخصية بتفانٍ، ويملك حسًا نقديًا يثري العمل ولا يربك صناعه. إنها صورة فنان نادر في زمن السرعة.
جلسة خالد النبوي لم تكن بروتوكولًا ولا احتفالاً شكليًا؛ كانت إعلانًا هادئًا عن مسيرة تقف على ثلاثة أعمدة: الالتزام، البحث، والهوية. وربما لهذا السبب تحديدًا جاءت لحظة تكريمه في “القاهرة السينمائي” ليست احتفاء بماضٍ قدمه، بل إشارة إلى مستقبل ينتظر أن يكتب بوعي فنان يعرف جيدًا لماذا يقف أمام الكاميرا، ولمن يقدم فنه، وما الرسالة التي يريد أن يتركها في الوجدان المصري والعربي.

