قدّم العرض العالمي الأول لفيلم «شكوى رقم 713317» للمخرج ياسر شفيعي ضمن مسابقة «آفاق السينما العربية» نموذجًا لسينما مصرية جديدة تتوغّل في التفاصيل اليومية لتطرح أسئلة اجتماعية وإنسانية تتجاوز بساطة الحكاية. الحضور اللافت في عروض الجالا يعكس حالة ترقب لمخرج يخوض تجربته الروائية الطويلة الأولى بعد مسار بدأه من خارج المسار السينمائي التقليدي.
حكاية بسيطة بثِقل إنساني
ينطلق الفيلم من قصة تبدو شديدة البساطة: زوجان متقاعدان يواجهان عطلًا في ثلاجتهما، لكن هذا الحدث المنزلي يتحوّل إلى مدخل لطبقات أعمق من الواقع، فالثلاجة المعطلة تتحول لرمز لجمود الحياة، وتهالك المؤسسات، واتساع الفجوة بين الإنسان وحقوقه الأساسية، وبينما تتفاقم الأزمة، يفتح الفيلم شقوق العلاقة بين الزوجين، ليكشف عن تراكمات صامتة خفيّة طالما ظلت تحت سطح الهدوء.
تكمن قوة الفيلم في قدرته على تحويل حدث يومي عابر إلى محرّك درامي يكشف هشاشة العلاقات وضغط البيروقراطية على المواطن البسيط؛ فهنا الدراما تنبع من صدق التفاصيل لا من ضخامة الحدث.
ثنائية حميدة ورضوان
يحمل الفيلم الكثير من ثقله على أداء محمود حميدة ومحمد رضوان. يقدّم حميدة شخصية «مجدي» بعمق يجمع بين الإحباط والسخرية، محولًا الضحك إلى وسيلة مقاومة لسيستم كامل معطّل لا لعطل منزلي فقط ، أما رضوان فحضوره يعزز الملمح الواقعي للفيلم بملامحه المصرية الأصيلة وأدائه الطبيعي الخالي من المبالغة.
وتقدّم الفنانة شيرين أحد أكثر أدوارها نضجًا، بشخصية تقف بين الانكسار والرغبة في المقاومة وسط عالم بيروقراطي خانق. اعتمادها على التعبير الداخلي والصمت المعبّر يمنح الشخصية ثقلًا إنسانيًا واضحًا.
أما هنا شيحة فتظهر كـ«زيزي»، امرأة تعيش صراعًا مؤلمًا مع زوج يشك فيها باستمرار، ما يدفعها إلى اتخاذ قرار الخلع رغم تمسكها ببيتها وطفليها، تقدم شيحة أداءً صادقًا يعكس صراع المرأة بين الأمومة وحقها في الاحترام والطمأنينة، وتأتي مشاركة جهاد حسام الدين وبقية الممثلين لتكمل عالم شفيعي الواقعي، حيث تبدو الوجوه مألوفة، محمّلة بما يكفي لإيصال الفكرة دون افتعال.
عين مخرج تعرف قيمة التفاصيل
تنعكس خلفية ياسر شفيعي كصانع مجوهرات سابق في دقة تكوين المشاهد، واختيار الديكورات، وتحويل شقة الزوجين إلى «شخصية» قائمة بذاتها، رحلته من ورش الجيزويت والأكاديمية إلى أول فيلم طويل تظهر شغفًا بالإنسان اليومي، وولعًا بالقصص الصغيرة التي تحمل معاني كبرى. أعماله القصيرة مثل «حلم المشهد» و«الراجل اللي بلع الراديو» تؤكّد هذا الخط الفني.
البيروقراطية كوحش درامي
يعالج شفيعي البيروقراطية لا كإجراء، بل كحالة تستنزف الإنسان نفسيًا، رحلة «مجدي وسما» بين مكاتب الصيانة والشخصيات المراوغة ترسم صورة لمدينة قاسية تتآكل فيها الطاقة الإنسانية تحت ضغط التفاصيل الصغيرة، يميل الفيلم إلى الكوميديا السوداء التي تضحك المشاهد بقدر ما توجعه، في مساحة تلامس العبث اليومي الذي يعيشه المواطن.
قيمة التجربة
ينتمي «شكوى رقم 713317» إلى موجة السينما العربية المستقلة المعتمدة على الحد الأدنى: مواقع قليلة، أحداث أبسط، وشخصيات محدود، لكن كل تفصيلة تحمل معنى، إنه فيلم عن مجتمع حين يتعطل،عن علاقات تذبل ببطء، وعن إنسان يحاول النجاة وسط الضجيج الخارجي والداخلي.
ورغم كونه تجربة أولى طويلة، يحمل الفيلم روحًا صادقة وعيونًا حساسة للعالم. إنه بداية واعدة لمخرج يمتلك لغة خاصة وقدرة على صنع دراما كبيرة من تفاصيل صغيرة.
