نورا أنور تكتب: «كان ياما كان في غزة»..الإنسان قبل السياسة

شهدت المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ46 حضورًا لافتًا للأفلام الفلسطينية، إذ افتتحت بعرض الوثائقي «ضل عنا عرض»، ثم جاء في اليوم التالي العرض الروائي «كان ياما كان في غزة» للمخرجين عرب وطرزان ناصر.

هذا التواجد المزدوج يعكس دعم المهرجان للسينما الفلسطينية، لكنه يثير سؤالًا مشروعًا حول معايير الاختيار: هل يختار المهرجان الأفلام لقيمتها الفنية أم لقيمتها السياسية والرمزية؟

الوثائقي «ضل عنا عرض» حاول الاقتراب من الواقع الفلسطيني، لكنه جاء فنيًا أقل من المتوقع، إذ يفتقر إلى لغة سينمائية متماسكة رغم أهمية موضوعه، على النقيض، يحمل فيلم «كان ياما كان في غزة» رؤية مختلفة؛ لا يتعامل مع فلسطين من زاوية سياسية مباشرة، بل يذهب إلى الإنسان العادي، إلى تفاصيل الحياة اليومية التي تتجاوز العناوين الكبرى.

هل هو فيلم فني أم اختيار سياسي؟

الفيلم يتناول قصة الطالب يحيى، الذي يعيش في غزة عام 2007، ويصادف صديقه أسامة الذي يدير مطعم فلافل يستخدمه كغطاء لتجارة المخدرات. العلاقة بينهما تتطور وسط مطاردة شرطي فاسد، لتكشف هشاشة المجتمع تحت ضغط الفقر والحصار والأزمات. مزيج الكوميديا السوداء والدراما الواقعية يمنح الفيلم طابعًا إنسانيًا عميقًا، لكنه يفتح تساؤلًا حول سبب دخوله المسابقة الدولية: هل لقيمته الفنية أم لكونه فيلمًا فلسطينيًا حائزًا جوائز في «كان»؟

بعيدًا عن هذا الجدل، يختار الفيلم وضع الفلسطينيين في مركز إنساني، حيث لا يصبح الفرد رمزًا سياسيًا، بل إنسانًا يعيش الضغوط اليومية ومحاولة البقاء. هذه الرؤية لا تُقلل من حضور السياسة، لكنها تضعها في الخلفية، لتفسح المجال لحياة الناس ومعاناتهم وطرق مواجهتهم للواقع.

تقنية “فيلم داخل فيلم”: عبثية الواقع في سياق فلسطيني

أبرز أدوات الفيلم هي تقنية «فيلم داخل فيلم». يجد يحيى نفسه ممثلًا في مسلسل دعائي تابع لحماس، حيث يتم التصوير باستخدام رصاص حي بدل المؤثرات، المشهد يمزج السخرية مع الألم، ويكشف العبث الذي يعيشه سكان غزة، سبق استخدام هذه التقنية عالميًا، خاصة في «Synecdoche, New York»، حيث تبنى مدينة داخل مسرح لرصد عبثية الوجود، هنا، تسهم التقنية في توسيع رؤية الفيلم، مضيفة طبقة رمزية على حياة الفلسطينيين تحت ضغط السياسة والفساد.

شخصيات مكتوبة بعناية وسرد يتقاطع فيه الهزل مع المرارة

الشخصيات في الفيلم منسوجة بواقعية: يحيى يمثل طموح الشاب الفلسطيني الباحث عن حياة أفضل، وأسامة نموذج للشاب الطيب الذي ورطته ظروفه، بينهما شرطي يرمز إلى الفساد المستشري في البيروقراطية والسلطة،هذا الثالوث يمنح السرد توترًا دائمًا، ويكشف الصراع بين الفرد والنظام.

الحوارات تتمتع بخفة لافتة رغم ثقل الواقع، وتمزج بين الفكاهة والوجع. الإخراج يظهر حساسية شديدة في التعامل مع بيئة غزة، مع بناء ديكورات دقيقة في عمّان لمحاكاة الشوارع والمقاهي والمنازل. هذا الحرص على التفاصيل يمنح الفيلم واقعية تؤثر في تلقّي الجمهور.

موسيقى وصورة تدعمان الحالة النفسية

الموسيقى التي وضعها أمين بوحافة تلعب دورًا مهمًا في موازنة الكوميديا مع التراجيديا، وتمنح الشخصيات عمقًا عاطفيًا دون إفراط، أما التصوير، فيتأرجح بين الضوء والظل ليعكس تناقضات الواقع في غزة؛ الطمأنينة المؤقتة والخطر الدائم، المشاهد الداخلية تعكس هشاشة البيئة المنزلية، بينما تكشف الخارجية عن توتر المجتمع وغياب الأمن.

إنسانية تتقدّم على السياسة

على الرغم من انغماس الفيلم في تفاصيل الحياة الفلسطينية، فإنه ينجح في تجاوز فكرة تقديم الفلسطيني كرمز سياسي، ليبرز كإنسان أولًا، لا يتجاهل الفيلم الاحتلال أو الحصار، لكنه لا يستخدمهما كمركز للسرد، بل كخلفية تدفع الشخصيات إلى خيارات صعبة وتشكّل مسار حياتها اليومية.

إضافة للسينما الفلسطينية

يمثل «كان ياما كان في غزة» إضافة نوعية للسينما الفلسطينية المعاصرة، قيمته لا تكمن في تمثيل قضية سياسية فحسب، بل في طريقة تقديمه للواقع عبر مزيج من الجرأة الفنية والكوميديا السوداء، ومع استخدام تقنية فيلم داخل فيلم، يقدّم الأخوان ناصر رؤية سينمائية ناضجة تستخدم الأدوات العالمية لرواية حكاية محلية بامتياز. الفيلم في جوهره رحلة نحو الإنسان، قبل السياسة، نحو فهم الحياة من الداخل، لا من عناوين الأخبار