محمد قناوي يكتب عن الفيلم التونسي: حين تأخذنا الريح إلي الحرية

رحلة تأملية عميقة في معنى الحرية والهروب والبحث عن الذات في مجتمع ضاغط ومحاصر بالأعراف يقدمها الفيلم التونسي «وين يأخذنا الريح» للمخرجة آمال قلاتي ، والذي ينافس في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، في الدورة الثامنة من مهرجان الجونة السينمائي، حيث برز الفيلم كأحد أكثر الأعمال العربية شاعرية ونضجًا على مستوى الرؤية الفنية والطرح الإنساني.

الفيلم لا يكتفي بسرد حكاية مراهقين تائهين في طريق طويل نحو الجنوب التونسي، حيث تدور أحداث الفيلم حول أليسا،«آية بالأغا» الفتاة المتمردة ذات التسعة عشر عامًا، ومهدي، «سليم بكار» ، الشاب الخجول ابن الثلاثة والعشرين عامًا، اللذين يستعينان بخيالهما للهروب من واقعهما المأزوم، وحين يكتشفان مسابقة تتيح لهما فرصة للسفر، ينطلقان في رحلة إلى إلي جزيرة جربة جنوب شرق تونس، محمّلين بالأحلام، ليكتشفا تدريجيًا أن الطريق ليس مجرد ممر نحو مكان جديد، بل مساحة مفتوحة لاختبار الذات ومساءلة المعنى الحقيقي للحياة.

لغة السينما.. بين الواقع والحلم

ما يميّز«وين يأخذنا الريح» هو أنه لا يعتمد على الأحداث أو العقد الدرامية الكبرى، بل على الإحساس،  المخرجة آمال قلاتي تبني فيلمها بوعي بصريّ حساس، يوازن بين الواقعية الشعرية والحس الفلسفي، تستخدم الكادر الطويل واللقطات الواسعة كوسيلة للبوح أكثر منها للسرد، لتخلق لغة سينمائية تعتمد على الإيقاع الهادئ والفراغات المدروسة، حيث الصمت يصبح جزءًا من الحكاية، والفراغات تعكس عزلة الشخصيات وضياعها الداخلي.

تصوير فريدة مرزوق جاء رائقًا ومشحونًا بالرموز البصرية، إذ تتحول الطبيعة في الفيلم إلى شريك درامي أساسي؛ الصحراء الممتدة رمز للحرية والوحشة في آن، والريح ليست مجرد عنصر مناخي، بل استعارة لاندفاع الشباب نحو المجهول، أما موسيقى عمر علولو فتمتزج بالمشهد دون أن تطغى عليه، تهمس كأنها صوت داخلي يرافق الشخصيات في رحلتها، ويجعل المتفرج يعيش التجربة لا كمراقب بل كمشارك فيها.

بطلة تصنع مساحتها ومخرجة تعرف لغتها

تقدّم آمال قلاتي بطلتها أليسا من دون أي شعارات نسوية مباشرة، بل من خلال فعل المقاومة الصامتة،  الفتاة لا تصرخ ولا تواجه المجتمع بالتمرد الصاخب، لكنها تختار الطريق كفعل بديل، كأن الرحيل هو طريقتها الوحيدة في أن تقول “لا”.. بهذا التناول، تكتب قلاتي خطابًا أنثويًا ناعمًا لكنه عميق، يثبت أن المرأة قادرة على أن تكون مركز الحكاية بلا ادعاء، وأن التعبير الصادق عن الذات أقوى من أي خطاب أيديولوجي جاهز .. تبدو المخرجة واعية بلغة الصورة، فتتحكم في الإيقاع والمونتاج بدقة، مستفيدة من عملها السابق كمونتيرة، إذ شاركت في المونتاج بنفسها إلى جانب غالية لاكروا ومالك كمون، لتضمن انسجامًا كاملاً بين الرؤية الإخراجية والإيقاع الداخلي للفيلم.

في نهاية المشاهدة، لا نعرف بالضبط إلى أين أخذتنا الريح، لكننا نخرج ونحن نشارك الشخصيتين نفس الإحساس بالتحرر المؤقت، ونفس الخوف من المجهول.

«وين يأخذنا الريح» ليس فيلم طريق بالمعنى التقليدي، بل هو تجربة وجدانية عن القلق الإنساني في مواجهة العالم، وعن هشاشة الحلم حين يواجه الواقع.

لقد استطاعت آمال قلاتي أن تصنع فيلمًا يهمس أكثر مما يصرخ، يلامس القلب قبل العين، ويعيد إلى الواجهة القيمة الجمالية للسينما التونسية كفن قادر على الجمع بين البساطة والعمق، وبين المحلي والكوني، إنه فيلم لا يقدّم إجابات، بل يفتح أسئلة معلّقة في الهواء، كريحٍ لا تعرف وجهتها، لكنها بالتأكيد تترك أثرها في الوجدان.

من تونس إلى العالم

لا يقتصر نجاح الفيلم على مشاركته في مهرجان الجونة، إذ سبق أن نال جائزة النحلة الذهبية لأفضل فيلم طويل في مهرجان مالطا السينمائي، وجائزة أفضل فيلم روائي في مهرجان تورنتو للفيلم العربي، كما شهد عرضه العالمي الأول في مهرجان صندانس السينمائي الدولي، وشارك في مهرجانات روتردام وإسطنبول وغيرهما.

هذه المسيرة الدولية تكرّس حضور السينما التونسية الجديدة كصوت معبر عن جيل يبحث عن ذاته في عالم متغير، وتؤكد أن السينما العربية قادرة على التواجد في الخارطة العالمية حين تمتلك الصدق والرؤية والجرأة الفنية.