يعود مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته السادسة والأربعين بروح متجددة تجمع بين الأصالة والتطلّع للمستقبل، تحت رئاسة الفنان حسين فهمي، فمنذ الإعلان عن تفاصيل الدورة المقررة في نوفمبر القادم، بدا أن المهرجان يسعى لاستعادة بريقه كمحفل سينمائي يعيد للسينما المصرية والعربية مكانتها كقوة ناعمة قادرة على صياغة الوعي وفتح أفق للأمل. اختار المهرجان أن تكون الإنسانية محوره الرئيسي، في محاولة لتأكيد دور الفن كجسر بين الثقافات، وكصوت يمنح الإنسان حق الحلم والمقاومة والجمال في مواجهة قسوة الواقع.
رئيس المهرجان حسين فهمي تحدث بروح المحب للسينما، مؤكدًا أن الفن لا يزال الوسيلة الأصدق لتغيير الواقع وبثّ الأمل في النفوس، بينما شدد المدير الفني محمد طارق على أن الدورة الجديدة تسعى لتقديم مزيج من الأفلام التي تعكس تنوّع التجربة الإنسانية حول العالم.
بوستر النهضة.. بين الرمز والتضارب
الكشف عن البوستر الرسمي الذي استُلهم في تصميمه من تمثال “نهضة مصر” للنحات محمود مختار لم يكن تفصيلًا شكليًا، بل إعلانًا عن فلسفة الدورة الجديدة التي تستند إلى فكرة أن النهضة الثقافية تبدأ من الوعي بالجذور.
غير أن الجدل حول البوستر طغى على هذا المعنى؛ فقبل المؤتمر بساعات، أرسل المركز الإعلامي بيانًا يؤكد أن التصميم المتداول هو البوستر الرسمي، لكن بعد موجة انتقادات واسعة على مواقع التواصل، صدر نفي لاحق بأنه “بوستر مبدئي”.
ثم عاد الفنان حسين فهمي خلال المؤتمر ليؤكد ببساطة أن “البوستر لم يعجبنا وسنغيره”، وكأن المسألة تفصيل يسير، وهو ما كشف عن تضارب في الموقف الرسمي وألقى بظلال من التساؤل حول وحدة الرؤية البصرية للدورة ، ورغم ذلك، يبقى اختيار الإيحاء بتمثال “نهضة مصر” كرمز بصري لافتًا ومحمّلًا بدلالات ثقافية عميقة تربط بين الماضي والحاضر، حتى وإن شابه ارتباك في طريقة طرحه.
تكريمات تليق بالمنجز
تضم قائمة المكرّمين أسماء لامعة من أجيال مختلفة، بينهم المخرج محمد عبد العزيز، ومدير التصوير محمود عبد السميع، إلى جانب الفنان خالد النبوي الذي يمنح جائزة فاتن حمامة للتميز .. أما في البعد الدولي، فسيتم تكريم المخرجة المجرية إلديكو إينييدي والفنانة الفلسطينية هيام عباس، في دلالة واضحة على انفتاح المهرجان على قضايا الإنسان في كل مكان، وعلى إيمانه بأن السينما صوت يتجاوز الحدود.
ملاحظات نقدية
رغم التقدير للجهد المبذول في التحضير لهذه الدورة، فإن بعض الملاحظات تفرض نفسها ، أبرزها ما يخص برنامج الأفلام القصيرة، الذي ما زال يثير الجدل بين النقاد والمتابعين، فرغم الوعود السنوية بتقديم عروض استثنائية، فإن اختيارات البرنامج خلال الأعوام الأربعة الماضية – تحت الإدارة نفسها – لم تكن على مستوى التوقعات ، فالعديد من الأعمال التي قدمت سابقًا لم تعبّر بعمق عن الاتجاهات الجديدة في السينما القصيرة، ولا عن روح التجريب التي تميز هذا النوع الفني، ما جعل هذا القسم يبدو في أحيان كثيرة أضعف من غيره ، ولذلك يبقى السؤال مطروحًا: هل ستشهد الدورة السادسة والأربعون مراجعة حقيقية للذوق والمعايير التي تحكم هذا البرنامج؟ أم سيظل رهين اختيارات لم تنجح في كسب ثقة الجمهور والنقاد؟
اختيارات لجان التحكيم.. بين التنوع والتساؤلات
كما أثار إعلان أسماء بعض أعضاء لجان التحكيم نقاشًا واسعًا بين المهتمين، إذ يرى البعض أن هناك أسماء لا تمتلك الخبرة الكافية لتقييم أعمال سينمائية على هذا المستوى الدولي، بينما تضمّ اللجان في المقابل أسماء لامعة مثل المخرج التركي الكبير نوري بيلغي جيلان والمخرجة المصرية نادين خان والممثلة بسمة، ورغم أهمية التنوع في الخلفيات الفنية والثقافية، إلا أن التوازن بين الخبرة والتمثيل الرمزي يظل عنصرًا حاسمًا لضمان مصداقية التحكيم.
توازن بين المحلية والعالمية
من النقاط المضيئة هذا العام حرص المهرجان على الجمع بين الأفلام المصرية والعربية والعالمية في إطار تنافسي واحد، بما يعكس ثقة المهرجان في قدرته على أن يكون جسرًا بين السينما المحلية والعالمية.
إلى جانب العروض والأفلام، كشف المهرجان عن مجموعة من الشراكات مع مؤسسات ثقافية وتعليمية كبرى مثل الجامعة الأمريكية بالقاهرة ومؤسسة “دروسس”، إضافة إلى دار “ريشة” التي ستصدر سلسلة كتب عن المكرّمين وأهم فعاليات الدورة، هذه الخطوة تؤكد أن المهرجان يسعى لأن يكون مركزًا للفكر السينمائي لا مجرد ساحة عروض، وأنه يراهن على التثقيف بوصفه جزءًا من صناعة السينما نفسها.
بين النهضة والانتظار
في المجمل، تبدو الدورة السادسة والأربعون من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي واعدة من حيث الفكرة والتنظيم والرؤية، لكنها ما زالت تواجه تحديات حقيقية في الاختيارات الفنية الدقيقة، سواء في لجان التحكيم أو في إدارة البرامج النوعية ، ويبقى الأمل معقودًا على أن تنجح الدورة الجديدة في تجاوز ما شاب الأعوام السابقة من تكرار في الأسماء والخيارات، وأن تقدم سينما تخاطب الإنسان لا الجوائز، وفنًا يحمل الوعي لا المظاهر.
الرهان الأكبر هذا العام ليس فقط على جودة الأفلام، بل على قدرة المهرجان على استعادة ثقة جمهوره ونقاده، وعلى أن يظل القاهرة السينمائي منبرًا للفكر والإبداع، كما كان دائمًا منذ تأسيسه ، فبين الحنين إلى الماضي والرغبة في المستقبل، تظل”النهضة” كلمة السر في دورة هذا العام — نهضة تعيد للسينما المصرية بريقها، وللإنسان مكانه في قلب الصورة.