محمد قناوي يكتب: وليد سيف يمزج السيرة بالخيال في «سكة اللي يروح»

في كتابه الجديد «سكة اللي يروح.. بين السيرة والخيال»، الصادر عن الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما، وصدر ضمن فعاليات مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البجر المتوسط في دورته الــ 41، يخوض الناقد والإكاديمي د.وليد سيف مغامرة سردية تجمع بين الاعتراف الشخصي والوعي السينمائي، بين حكاية الإنسان وحكاية النقد، في نصّ يراوح بين التوثيق والبوح، بين الواقع والمتخيل

منذ صفحاته الأولى، يعلن سيف أنه لا يكتب سيرة ذاتية تقليدية، بل تجربة تأملية في الذاكرة، تُمزج فيها الحكاية بالمقال، والدرس النقدي بالاعتراف الإنساني، ليغدو الكتاب وثيقة عن جيلٍ عاش السينما بوصفها حياةً ومصيراً

البدايات الأولي

يبدأ الكتاب من البدايات الأولى في حيّ شعبي بالقاهرة، حيث يرسم المؤلف مشاهد طفولته بصدق ودفء وسخرية، من الهروب من الحضانة إلى أول صدمة مدرسية، ومن أول محاولة للقراءة إلى أول عرض سينمائي خاص في حياته.

في هذه الحكايات الصغيرة، يبذر وليد سيف بذور الحسّ النقدي الذي سيلازمه لاحقاً. فالطفل الذي اكتشف الحروف بحدس المعجزة هو نفسه الذي سيكتشف فيما بعد أسرار الضوء والظل في السينما، ليصبح أحد أبرز نقادها وأساتذتها في مصر والعالم العربي.

يتتبع الكتاب مسار وليد سيف في علاقة متصاعدة بالسينما: من مشاهدته الأولى لأفلام نجيب محفوظ، مروراً بانضمامه إلى جمعية الفيلم، ثم تجاربه في الكتابة والتدريس، حتى توليه مسؤوليات في المركز القومي للسينما وقصر السينما ومخرجا

السينما والوعي

لكن سيف لا يسرد تلك المسيرة لتأكيد الذات، بل ليكشف كيف تحوّلت السينما إلى وعي جماعي وثقافة وطنية، وكيف أصبح النقد نفسه فعلاً معرفياً مرتبطاً بالحياة، لا بالمشاهدة فقط.. يكتب بعين المحلل لا بعين المتباهي، ويستعيد الكواليس والتجارب ليضيء بها تاريخاً طويلاً من التحولات في الوعي السينمائي المصري.

تتنوع فصول الكتاب بين السرد القصصي والاعترافات الصريحة والمقالات التحليلية، في أسلوب حرّ ومتعدد النبرات، يشبه إلى حد كبير أسلوب المونتاج السينمائي ففي فصل «في انتظار زائر الفجر»، يتحوّل الخوف العائلي من استدعاء أمني إلى مشهد درامي مكثف عن القمع السياسي في الستينيات، بينما في «العرض الخاص» يتحوّل لقاء الفنانة حبيبة إلى لحظة طهورية من الوعي بالجمال والدهشة الأولى ، نها كتابة تجعل من الحياة سينما داخل السينما، ومن الذاكرة نصاً بصرياً يعيد إنتاج الواقع في شكل فني أخّاذ.

لغة سهلة ممتنعة

يكتب وليد سيف بلغة سهلة ممتنعة، تمزج بين السخرية الرشيقة والتأمل الفلسفي، فيتجاور المشهد الشعبي مع التحليل الجمالي، وتتحول السيرة الشخصية إلى رؤية فكرية عن علاقة الفن بالحرية والطفولة والوعي .. أسلوبه بسيط في ظاهره لكنه عميق في دلالته، يستدعي الذاكرة الجماعية لجيلٍ عاش بين الأمل والانكسار، بين النقد والمقاومة، وبين الفن والواقع.

يحمل عنوان الكتاب «سكة اللي يروح» دلالة رمزية مزدوجة: فهو طريق الذهاب إلى الذات، والعودة منها في آنٍ واحد، إنها السكة التي عبرها الكاتب نحو ذاته ونحو السينما، ونحو ما هو أبعد من الاثنين معاً – نحو المعنى الإنساني للرحلة، فكل فصل من الكتاب يبدو كمحطة في قطار طويل من التجربة والتأمل والبحث عن الهوية.

نموذج للكتابة

يقدّم وليد سيف في هذا الكتاب نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه الكتابة النقدية حين تمتزج بالحياة، وحين يتحول النقد إلى سرد ذاتي مفتوح على المجتمع والتاريخ…فهو لا يتحدث فقط عن السينما التي أحبها، بل عن الإنسان الذي يصنع السينما، وعن الوعي الذي يجعل من كل تجربة – مهما بدت عابرة – مشهداً يستحق أن يرى ويكتب

إن «سكة اللي يروح» ليست مجرد سيرة ناقد أو مخرج، بل رحلة جيلٍ كامل سار في طريق الفن دون ضمانات، مؤمناً بأن السينما ليست مهنة بل قدر.