مهرجان كان السينمائي 2025 : فيلم«الموجة الجديدة»احتفاء بغودار

عبدالستار ناجي

احتفاءا بالمخرج الفرنسي الراحل جان لوك غودار والسينما الجديدة”الموجة الجديدة للسينما الفرنسية التى اطلقها مع مجموعة من اهم المخرجين ” ، ياتى فيلم «الموجة الجديدة» للمخرج ريشارد لينكلاتر ، وهو فيلم وثائقي درامي ساحر ومبتكر بالاسود والابيض يتناول صناعة فيلم مدهش وثري ، عند المخرج  جان لوك غودار “جسد الشخصية غيوم ماربيك”، البالغ من العمر 29 عامًا، نظارته الشمسية أبدًا، يرتديها في موقع التصوير وفي المكتب، وفي المطاعم، وفي دور السينما، حتى باتت جزءا من شخصيته .

ففي فيلم سيرة ذاتية، لا يبدو أي ممثل مطابقًا تمامًا للشخص الذي يؤدي دوره. لكن الممثل الفرنسي الشاب  غيوم ماربيك، بشعره الكثيف ووجهه الجامد، يشبه غودار بشكل مذهل، وبدون عينيه اللتين تكشفانه، يكاد الشبه يكون مثاليًا. كما استطاع  ماربيك ان يتقن نبرة صوت غودار – صوته التأملي والأنفيّ بأسلوب موسيقي، مع لمسة من الرعشة الخفيفة .

عند مشاهدة فيلم «الموجة الجديدة»، لا نحتاج إلى أن نُحدّق قليلاً لنُخيّل إلى جان لوك غودار. بل يبدو أن غودار قد برز أمامنا. وتمتد هذه الخاصية الغريبة إلى الفيلم بأكمله، الذي يضعنا في باريس عام ١٩٥٩، في العديد من الشوارع والطرقات والمقاهي وغرف الفنادق نفسها التي صوّر فيها فيلم “لاهث”- برثليس –  ويستخدم تصويرًا سينمائيًا لامعًا عالي التباين بالأبيض والأسود ليُحاكي مظهر “لاهث”، وليجعلنا نشعر وكأننا هناك، نختلط مع غودار وتروفو وشابرول وانييس فاردا وجان بول بلموندو وجان سيبرغ وجان بيير ميلفيل، كما لو أننا حلقنا عبر  آلة الزمن الى باريس نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات .

الجزء الاول من الفيلم يعرّفنا على غودار وزملائه من نجوم الموجة الفرنسية الجديدة، ويظهره الفيلم وهو يناور لإخراج فيلمه الأول، وهو امتياز يراه مستحقًا منذ زمن، إذ تعهد هو وزملاؤه النقاد في مجلة “كاييه دو سينما”- الدفاتر السينمائية –  بأن يصبحوا صانعي أفلام. أنتج شابرول، ذو الطباع الصارخة، فيلمين روائيين، بينما انتهى تروفو، الوديع، من فيلم “400 بلو اب “. غودار، اللص الذي يجيد السرقة عند الحاجة، يخرج الأموال من صندوق “كاييه” ليذهب إلى مهرجان كان السينمائي لحضور العرض الأول لفيلم “400 بلو اب “، لاقى الفيلم استحسانًا كبيرًا، إذ أدرك الجميع أنهم يشاهدون الجيل الجديد من السينما الفرنسية.

هنا نري إن غودار استطاع إبرام صفقة مع المنتج جورج دو بورغارد (برونو فرايفورست). وافق غودار على إنتاج فيلم عن رجل عصابات وفتاة، مستوحى من لسيناريو  لتروفو، وقال إنه سيصوره خلال عشرين يومًا، استعان بصديقه الممثل الشاب، جان بول بلموندو (أوبري دولين)، ليلعب دور مجرم صغير وبطل مضاد، واقترح على جان سيبرغ (زوي دوتش)، نجمة السينما الأمريكية التي عادت من تجربة العمل مع أوتو بريمينغر في فيلم “صباح الخير يا حزين”، أن تلعب دور الفتاة الأمريكية التي تتورط معه، أما بالنسبة لطاقم العمل، فالأمر بسيط للغاية: فهو يستعين برجل طويل القامة ولطيف وهو راؤول كوتار (ماثيو بينشينات) ليكون مصوره، حيث أن كوتار صور لقطات وثائقية عن حرب الهند الصينية الفرنسية، ويريد جودار أن يبدو فيلم – اللاهث – او “بلا نفس” وكأنه فيلم وثائقي عن حياة رجل العصابات .

اختار غودار تصوير فيلم “لاهث” بطريقة خاصة، وجزء من دهائه يكمن في أنه سيفعل ذلك دون أن يصرّح به. صحيح أن للفيلم مواقع تصوير وأزياء، ونعم، هناك “سيناريو”، لكن غودار تسيطر عليه فكرة ثورية: فهو سيرتّب “لاهث” أثناء تصويره.

بمجرد وصول «الموجة الجديدة» إلى موقع تصوير “لاهث”، يكرّس بقية الفيلم لما حدث أثناء التصوير، والسبب الذي يجعل مشاهدته مبهجة – على عكس أي فيلم يتناول صناعة أي فيلم آخر تقريبًا – هو أنه يكاد لا يوجد أي فصل بين الفيلم الذي يصوّره غودار وما يحدث خارج الكاميرا.

فيلم «الموجة الجديدة» ليس فيلمًا كوميديًا، ومع ذلك، يحمل بعدًا كوميديًا جادًا، ويرتبط ذلك بالبساطة المفرطة التي اتسم بها فيلم “لاهث”، وما تطلبه غودار لينجح فيه، في اليوم الأول من التصوير، عندما قال “أكشن” لأول مرة، شعرنا أن هناك شيئًا مفقودًا، فكل ما رأيناه هو مجموعة من الناس يقفون في الشارع، بكاميرا صغيرة مثبتة أمام كابينة هاتف،لا توجد معدات إضاءة (لأن الفيلم سيصوَّر بإضاءة طبيعية)، ولا صوت (لأن كل شيء سيزامن لاحقًا)، رأيت طلابًا ينتجون فيلمًا قصيرًا لفصلهم الجامعي في السينما، بدا إنتاجه أكبر من هذا الي قام به غودار اثناء تصوير فيلمه .

جميع الممثلين تقريبًا في فيلم «الموجة الجديدة» مناسبون تمامًا لأدوارهم، أوبري دولين يجسد شخصية بلموندو الشريرة الرقيقة، وزوي دوتش تُجسّد شخصية سيبرغ بقوة، يقدّم لينكليتر كل شخصية بإظهار اسمها على الشاشة .

فيلم «الموجة الجديدة» انجاز حقيقي للمخرج ريشار  لينكليتر، وبصدوره الآن، هو الفيلم المناسب في الوقت المناسب. في عصر يفترض فيه أن تنقذ الأفلام المبالغ فيها، يذكرك الفيلم بأن الخلاص الحقيقي للسينما سيأتي دائمًا من أولئك الذين يدركون أن صناعة الأفلام يجب أن تكون خدعة سحرية جيدة بما يكفي لخداع الساحر نفسه ليصدقها..

ونخلص .. بان فيلم «الموجة الجديدة» يبشر باسماء جديدة لمسيرة السينما الفرنسية الجديدة .