الإرتجال..شرارة الموهبة التي لا تُضيء إلا بوعي التعلّم

بقلم : محمد قناوي

خرجتُ من محاضرة د.إنجي البستاوي- الأستاذ بالمعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون، والمدير العام لمهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي، “الإرتجال ما بين التعليم والفطرة الإنسانية”، وأنا أشعر بأن الارتجال، الذي لطالما رأيناه حالة غامضة يصعب الإمساك بها، أصبح مفهوماً أكثر وضوحاً. بدت لي”البستاوي” وكأنها تنزع عن الارتجال تلك الهالة السحرية التي نختبئ خلفها، لتضعه أمامنا كمسؤولية فنية لا مجرد “لحظة عبقرية” عابرة.

كنت، مثل كثيرين، أعتقد أن الارتجال موهبة خالصة؛ إما أن تولد بها أو لا. لكن طريقة البستاوي في تفكيك هذه الفكرة أعادت تشكيل قناعتي. فهي لا تنكر دور الموهبة، لكنها تراها الشرارة الأولى فقط، بينما الحقيقة أن هذه الشرارة وحدها لا تكفي إن لم تجد طريقاً منضبطاً يقودها. الارتجال الحقيقي، كما تراه، يولد في تلك المساحة الدقيقة التي تلتقي فيها القدرة الفطرية مع العمل الجاد والتدريب المتواصل.

موهبة بلا وعي؟ نصف فن

أعجبني تشبيه د.إنجي البستاوي للارتجال بأنه يشبه القفز الحر ، لكنه قفز محسوب، فلا يمكن لأي فنان أن يترك نفسه للهواء دون أن يعرف اتجاه الريح، وهذه نقطة تفضح كثيراً من العروض التي تتذرع بكلمة “ارتجال” لتبرير الفوضى.

ما قالته البستاوي بوضوح هو أن الإرتجال ليس استسلاماً للمشهد، بل قرار لحظي واعٍ، والواقع أن هذه الفكرة اصطدمت بي شخصياً، لأننا نميل إلى الاعتقاد بأن الإرتجال مساحة بلا قيود، لكن الحقيقة أن الحرية لا تكون ذات قيمة إلا حين تأتي داخل إطار يمنحها المعنى.

الإرتجال ككشف للذات

وأنا أستمع إليها تتحدث عن مهارات الارتجال، من الإصغاء، إلى الحضور، إلى قراءة اللحظة، شعرت أن الارتجال لا يكشف جودة الأداء فقط، بل يكشف الفنان نفسه: ذكاءه، مرونته، استجابته للمحيط، قدرته على التكيّف، وشجاعته في مواجهة اللحظة المباشرة ، إنه فن يعرّي صدق الفنان قبل أن يقدّم صدق الشخصية.

اختلاف الوسيط واتحاد الروح

أثار اهتمامي أيضاً حديثها عن الفروق بين الارتجال في المسرح والسينما ، ففي المسرح يصبح الارتجال ضرورة لإنقاذ الموقف، وفي السينما يتحول إلى أداة تمنح المشهد لحظة حياة لا يوفرها النص وحده، وبين الوسيطين، أدركت أن الارتجال ليس ملكاً لمجال دون آخر، بل هو حالة إنسانية تتجاوز حدود الأدوات.

الوهم الأخطر “الاستسهال

أكثر ما احترمته في خطابها هو مواجهتها لفكرة خاطئة شائعة بين الممثلين الشباب: سأرتجل.. الأمر بسيط”، لكن الإرتجال، كما تؤكد، لا يأتي من فراغ. لا بد من نص، وتحضير، وفهم عميق للشخصية والبناء الدرامي.

ما الذي يبقى؟

بعد المحاضرة لم يعد الارتجال بالنسبة لي لحظة “تهبط” على الممثل ،أصبح عملية مركّبة تجمع العفوية بالوعي، والموهبة بالتعلّم، والحدس بالخبرة ،وربما هذا هو جوهر ما أرادت البستاوي قوله: إن الإرتجال ليس نقيض التعلّم، بل أحد نتائجه ، وإن الفنان الحقيقي هو الذي يظلّ يتدرّب، حتى تصبح لحظته الارتجالية لحظة صادقة. وواعية  ومؤثرة.