يعد مدير التصوير الكبير محمود عبد السميع، الذي يكرمه مهرجان القاهرة السينمائي، بجائزة الهرم الذهبي لإنجاز العمر في دورته الـ 46 ، واحدًا من أهم روّاد جيل التجديد البصري في السينما المصرية والعربية، بل يمكن القول إنه أحد الذين حوّلوا الكاميرا إلى لغة شعرية تعبّر عن الدراما لا تسجلها فقط.
لم يكن عبد السميع مجرد “مصور سينمائي”، بل مؤلف بالصورة، يكتب بالضوء والظل إيقاع المشهد، ويحوّل الإضاءة إلى إحساس إنساني متكامل يعبّر عن الحالة النفسية للشخصيات والجو العام للفيلم.
من الواقعية إلى الشعر البصري
بدأ محمود عبد السميع مسيرته في زمن كانت فيه السينما المصرية تبحث عن ملامح جديدة بعد تحوّلات السبعينيات، ومنذ أعماله الأولى، اتّضح أنه ينتمي إلى مدرسة الواقعية الشاعرية التي تجمع بين صدق الواقع وجمال التكوين ، وفي الأفلام التي قدمها، رسم عبد السميع ملامح مدرسة بصرية خاصة، تقوم على الضوء كحالة درامية لا كزخرفة، وعلى اللقطة الطويلة التي تمنح المشهد تنفسه الطبيعي، وعلى حسّ لوني يوازن بين دفء الحياة وقسوة الواقع.
العين التي ترى ما وراء الصورة
معظم أفلامه تنتمي لمدرسة الواقعية المصرية، خصوصًا أعمال مثل: العوامة رقم 70 ، الصعاليك، الجوع ، علاقات مشبوهة ، في هذه الأفلام نلمس: استعمال إضاءة طبيعية/شبه طبيعية لإبراز الواقعية الاجتماعية. ، تركيز على التفاصيل الحقيقية للشارع المصري، الورش، القرى، المقاهي. حركة كاميرا غير متكلفة، تُشعرك بأن المشاهد “مُلتقطة من الحياة” لا مصنوعة داخل الاستوديو. عبد السميع لم يكن يستخدم اللون اعتباطًا، بل يربط لوحة الألوان بالحالة: الأحمر/البرتقالي في “الجوع”يعكس حرارة المكان وشراسة الصراع ، الأزرق/الأخضر البارد في” صائد الأحلام”:يمنح الفيلم بُعدًا غرائبيًا وتعبيريًا ، “الألوان الترابية في الصعاليك، العوامة رقم 70” : تؤكد واقع الطبقة الشعبية ومناخ القاهرة الحقيقية.
بين الإبداع والهوية
عبد السميع من القلائل الذين استطاعوا أن يخلقوا هوية مصرية في الصورة السينمائية، هوية لا تقلّد الغرب، بل تنبع من البيئة المحلية، من تفاصيل الشارع والتراب والضوء الطبيعي.
كان دائمًا يقول إن “المصري يرى الضوء بطريقة مختلفة”، ومن هذا الإيمان صاغ فلسفته البصرية، حتى في الأعمال الحديثة، ظل محافظًا على هذا الحسّ، مؤمنًا بأن الصورة ليست مجرد جمال، بل معنى إنساني يتولّد من داخل الإطار.
مدرسة للأجيال الجديدة
خارج البلاتوه، لعب عبد السميع دورًا محوريًا في تأسيس الوعي السينمائي لدى جيل جديد من المصورين الشباب، سواء من خلال رئاسته لمهرجان جمعية الفيلم أو من موقعه كأستاذ وناقد ومدافع عن أخلاقيات المهنة، كان يرى أن مدير التصوير ليس منفّذًا تقنيًا، بل شريكًا فكريًا في صناعة الفيلم، وأن الصورة هي ذاكرة الوجدان الجمعي، لا مجرد وسيلة للعرض.
الصورة كحقيقة روحية
مشوار محمود عبد السميع هو رحلة من الضوء إلى المعنى، فهو فنان صنع بصمته من خلال البساطة والصدق، وجعل من الكاميرا عينًا للروح قبل أن تكون عينًا للجسد، لقد قدّم للسينما المصرية ما يجعل اسمه في مصاف الكبار: منحها لغة بصرية مصرية خالصة، وجعل الصورة تحمل الفكر والإحساس في آنٍ واحد، إنه بحق شاعر الضوء وصانع الجمال الخفي، الذي لا يلتقط الواقع فقط، بل يمنحه روحه.
