جدة – عبدالستار ناجي
بذكاء شديد واحترافية شابة، تصيغ المخرجة الشابة هيا الغانم مفردات وشخوص وأحداث فيلمها الروائي القصير الأول “مكان ثانٍ”، لتعزف على إيقاع المتغيرات التي تحيط بها وبالمجتمع الذي يشهد الكثير من التحولات الاجتماعية.
الفيلم الذي أنجزته الغانم ضمن “مختبر الفيلم القصير” لصانعات الأفلام الواعدات، بالتعاون بين “نتفليكس” والصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)، يحمل حكاية تبدو للوهلة الأولى بسيطة، ولكن ما فيها من مشاهد أعمق وأكبر مما هو مبطَّن، ويحتاج إلى كثير من التفكيك؛ حيث يغلب عليه الاختزال في كل شيء.
تبدأ القصة بصبيَّة تركض على شواطئ الخيران، وخلفها صوت أمها يصرخ باسمها وهي تلهث، وكأنها تريد الخلاص من شيء ما يجعلها تقرر أن تترك لساقيها العنان، بعيدًا عن ذلك المكان الذي نرى ملامحه على يدها المربوطة، وإصابتها في فخذها، والألم النفسي الذي يعتصرها، وكمٍّ آخر من الأشياء المختزلة التي على المشاهد الفاحص تفكيكها وتحليلها. ففي عمل هذه الصبيَّة الواعدة، هيا الغانم، لا شيء مباشر أو صريح سوى الإصرار والعزيمة على الكينونة.
تمضي الحكاية لتصل تلك الطفلة اللاهثة إلى مكان آخر ليس ببعيد عن شاليه أسرتها، حيث تقترب من فتاتين أكبر منها بعض الشيء تلهوان في البحر.
لتبدأ منطقة جديدة من التهكم عليها من قبل إحدى الفتيات، بينما تحاول الأخرى حمايتها من سيل الانتقادات والسخرية، وعذابات الانتقال إلى مكان ثانٍ لا تعرفه ولا يعرفها.

هكذا هي الحكاية: طفلة تنتقل من مكان إلى ثانٍ، فلماذا أصلاً كان الانتقال الأول؟ وأي ظروف تفجرت دعت تلك البراءة إلى الهروب؟ أسئلة مشرّعة على أبواب عدة. وأي صنف من أصناف المواجهات سيكون أمام تلك الطفلة وهي تحطُّ نفسها عند محطة المكان الثاني الذي لا تعرف عواقبه؟ لذا، تفرُّ إلى المجهول من جديد.
هذا الانتقال العشوائي للبراءة والطفولة يأتي نتيجة لظروف لا تُصَرِّح بها هيا الغانم مباشرة في فيلمها، بل تتركنا نبحث عن التفاصيل، بل تفاصيل التفاصيل.
فلماذا تلك اليد المربوطة؟ ولماذا ذلك الجرح الغائر في الساق؟ عدم معرفتها بوالدتها؟ ولماذا صراخ والدتها؟ وكمٌّ آخر من الأسئلة التي تتفجر عند نهاية الفيلم، وكأن هيا الغانم تقول: انتهت الفرجة وبدأ التفكير والتحليل.
إنه فيلم يتحيز للبراءة والطفولة. فيلم يصرخ: انتبهوا، لا تتركوا فلذات أكبادكم تضيع بين الأماكن وظروفها. فتلك السخرية العابرة من قبل إحدى الفتيات ما هي إلا بداية لمرحلة أكبر من السيطرة والهيمنة والانصياع وحتمًا الضياع.
ولكن هيا الغانم تمنح بطلتها فرصة إضافية للانطلاق بساقيها، لعلها تجد الخلاص بعيدًا عن المكان الأول الذي لم يستوعب طفولتها وبراءتها وعفويتها وحاجتها إلى دفء الأبوين والأسرة.
فيلم “مكان ثانٍ” هو البساطة التي تجعلنا نبحث في دهاليزها لنجد بأننا أمام مبدعة شابة استطاعت أن تظفر من البساطة بقصيدة سينمائية على مقام المتغيرات، وهو بلا أدنى شك مقام التحديات لمواجهة عواصف تلك المتغيرات التي تقتلع الإنسان من جذوره وتحوله إلى مجرد كائن مسيَّر ومندوب للجري بحثًا عن الخلاص.
ويبقى أن نقول: برافو… هيا الغانم

