نورا أنور تكتب: كيف صنعت الرقابة من «آخر المعجزات» فيلمًا استثنائيًا؟

الفيلم القصير «آخر المعجزات» من إخراج عبد الوهاب شوقي، مدته 19 دقيقة، ومأخوذ عن القصة القصيرة “معجزة” من المجموعة القصصية “خمارة القط الأسود” لأديب نوبل نجيب محفوظ، الذي آثار جدلًا واسعًا العام الماضي بعد منعه المفاجئ من العرض في إفتتاح مهرجان الجونة السينمائي في دورته السابعة، بعدها تحوّل إلى “قضية رقابية” أثارت الفضول أكثر مما أثارت النقاش الفني، ليثور السؤال الذي يفرض نفسه اليوم بقوة أكبر بعد عرضه الكامل دون حذف لقطة واحدة، ضمن الدورة الـ46 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ، ما الذي استدعى هذا المنع؟

فيلم قصير محترف إنتاجيًا

الفيلم من إنتاج 2024، سيناريو مارك لطفي وعبد الوهاب شوقي، وبطولة خالد كمال “يحيى”، أحمد صيام، عابد عناني، مع ظهور خاص لغادة عادل، وعندما تقرأ صناعه والممثلين المشاركين تجد أنه فيلم قصير محترف إنتاجيًا، إلا أن الضجة التي رافقته لم تكن بسبب محتواه الفني، بل بسبب قرار رقابي غير مفهوم في لحظته.

تدور أحداث الفيلم حول يحيى” هو صحفي في الأربعين من عمره يعمل في قسم الوفيات بجريدة ما، يتعرض للتوبيخ من مديره بسبب خطأ في كتابة اسم شيخ صوفي معروف، فيقرر الهروب لبعض الوقت ، في أثناء وجوده في إحدى الحانات، يتلقى مكالمة هاتفية من الشيخ المتوفى يطلب فيها لقاءه ،هذه المكالمة تقود يحيى في رحلة روحية تنتهي بنهاية غير متوقعة بكشف مفاجئ مرتبط بفكرة “المعنى” و”الخلاص”

القصة بسيطة ومكثّفة بطبيعتها كفيلم قصير، ولا تحمل أي خطاب قد يعد صادمًا أو مثيرًا للجدل. حتى الفكرة الروحية تقدَّم بطريقة إنسانية لا تمس مناطق حساسة، الفيلم لم يقلد القصة حرفيًا، لكنه حافظ على جوهرها الروحي والإيحائي، مع تبسيط الأحداث لتناسب وسيلة السينما القصيرة، لذلك فإن التحويل إلى فيلم قصير كان موفقًا من حيث الوفاء بروح محفوظ أكثر من التفاصيل الدقيقة، خصوصًا أن التأثير النفسي والتأملي للشخصية الرئيسية بقي حقيقيًا ومتماشياً مع النص الأصلي، وهنا تبدأ الغرابة: لماذا منع فيلم قصير غايته التأمل الروحي وليس المناقشة الدينية؟

لغة الصورة..مساحة القوة الوحيدة

رغم بساطة الحدث، يمتلك الفيلم ميزة واضحة في جماليات الصورة. الإضاءة الناعمة، الكادرات الهادئة، والاعتماد على الضوء الطبيعي تمنح العمل حسًا روحيًا يتماشى مع طبيعة القصة، وحتى عندما يتباطأ الإيقاع الدرامي، تبقى الصورة قادرة على حمل المعنى.

هذه الروح البصرية ربما كانت مصدر الالتباس لدى الرقابة السابقة: أي عمل يتعامل مع مفردات مثل”المعجزة” أو”الشيخ”أو”الاتصال الروحيط قد يقرأ باعتباره اقترابًا من منطقة دينية حساسة، حتى لو لم يكن كذلك ، لكن هذه القراءة لا تستقيم أمام المشاهدة الفعلية، الفيلم لا يناقش العقيدة، ولا يبشر، ولا يقدم تفسيرات ميتافيزيقية، هو مجرد رحلة ذاتية لشخص يبحث عن توازنه.

أزمة بين الرقيبين

التصريح الأوضح جاء من الرقيب الحالي “السيناريست عبد الرحيم كمال ” الذي أكد أنه لم يحذف شوطاََ واحدًا من الفيلم، هذه الجملة تكشف أن المنع السابق لم يكن نابعًا من مشكلة حقيقية، بل من اختلاف في التقدير بين إدارتين رقابيتين، الرقيب السابق ربما رأى “ظل مشكلة”فأصدر قرارًا احتياطيًا، الرقيب الحالي شاهد الفيلم ووجد أنه لا يثير أي إشكال، وهنا يظهر السؤال الأوسع: هل يمكن لقراءة شخصية لمسؤول واحد أن تحول فيلمًا قصيرًا إلى مادة مشتعلة بلا سبب؟ ، للأسف: نعم ، المفارقة: المنع ضخم فيلمًا هادئًا

بعيدًا عن الرقابة، الفيلم نفسه ليس صادمًا ولا ثوريًا، هو عمل لطيف، متماسك بصريًا، لكنه ليس من نوعية الأفلام التي تصنع جدلًا أو تغيّر خريطة السينما ، لكن قرار المنع ضخم الفيلم وجعله يبدو وكأنه عمل حساس، بينما محتواه أبعد ما يكون، تحوّل الفيلم من مجرد “عرض قصير ضمن برنامج” إلى فيلم ينتظر لاكتشاف “سبب المنع”، والمفارقة أن المشاهدين خرجوا بالسؤال نفسه: لماذا منع أصلًا؟

أداء خالد كمال… حمل الفيلم وحده تقريبًا

يقدّم خالد كمال واحدًا من أكثر أدواره هدوءًا ونضجًا، شخصية يحيى مبنية على التردد الداخلي أكثر من الفعل الخارجي، وهو ما يحتاج ممثلًا قادرًا على التعبير بعينه ووقفته قبل كلماته، ينجح خالد في تقديم صحفي منهك مهنيًا وروحيًا، تتداخل في ملامحه الخوف من المجهول مع حاجة دفينة للمعنى، أداؤه غير متكلف، بعيد عن الميلودراما، ويبقي الفيلم متماسكًا رغم قصر المدة وقلة الحركة.

النهاية.. “كشف” بلا صدمة

تأتي النهاية امتدادًا طبيعيًا لمنطق الحكاية الروحية، لا تطمح إلى صدمة ولا تسعى إلى مفاجأة مفتعلة، بل أقرب إلى كشف هادئ يضع التجربة في سياق شخصي، لا يقدم الفيلم تفسيرًا حاسمًا لما حدث ،هل المكالمة حقيقية؟ هل هي إسقاط نفسي؟  ،لكنه يترك المتلقي في مساحة رمادية مقصودة، متوافقة مع روح قصة نجيب محفوظ الأصلية التي تعتمد على إيحاء المعجزة لا برهانها.

لم يمنع «آخر المعجزات» بسبب محتواه، بل بسبب قراءة مبالغ فيها لطبيعته الروحية من قِبَل إدارة رقابية سابقة، وعندما تغيّر التقدير، سقط سبب المنع وبقي السؤال.

الفيلم ليس معجزة فنية، لكنه أيضًا ليس خطرًا ، إنه فيلم قصير هادئ وجد نفسه وسط صخب لا يستحقه، وبعد عرضه الكامل دون حذف، يظل السؤال مطروحًا: كيف أصبح فيلم بسيط كهذا معضلة رقابية؟