في عرضه الأول بالمسابقة الرسمية لمهرجان الجونة السينمائي، جاء فيلم «كولونيا» للمخرج محمد صيام ليقدّم تجربة مختلفة في بنائها وشجاعتها الفنية، الفيلم الذي يؤدي بطولته أحمد مالك وكامل الباشا، يختار لحظات ضيقة في الزمن والمكان ليكشف اتساع الجرح الإنساني بين أبٍ وابنه، في ليلة واحدة مشحونة بالاعترافات والذكريات واللوم.
ينتمي «كولونيا» إلى نوع الدراما النفسية المكثفة التي تبني أحداثها داخل إطار محدود زمانًا ومكانًا، في ما يشبه المسرح الحيّ المعبّر عن توتر العلاقات الإنسانية، تدور القصة خلال ليلة واحدة تجمع الأب والابن بعد سنوات من الجفاء، حيث تتفجر الأسئلة الصامتة والمشاعر المكبوتة، ويجد كلٌّ منهما نفسه مضطرًا لمواجهة الماضي الذي لم يُقل.
يختار المخرج محمد صيام أن تكون هذه الليلة رمزًا لحياة كاملة مؤجلة؛ فالأحداث تدور بينما المصعد معطل، والليل يطول، وأصوات العيد تأتي من الخارج لتذكّرنا بأن الزمن يمضي، بينما الشخصيات ما زالت عالقة في دوائرها الداخلية.
مالك والباشا
يقدّم أحمد مالك واحدًا من أكثر أدواره نضجًا في السينما، بأداء متوتر وعميق يجسّد الابن الممزق بين الحب والرفض، بين الإشتياق إلى حضن الأب والرغبة في معاقبته، «مالك» يتحكم في التفاصيل الدقيقة للانفعال، فلا يسقط في الميلودراما، بل يمنح الشخصية هشاشتها وإنسانيتها في آن واحد ، أما كامل الباشا، فيظهر بصورة الأب المنكسر، الذي يحاول تبرير قسوته القديمة أو تخفيف عبء الندم المتراكم. ورغم أن نطقه باللهجة المصرية بدا متعثّرًا في بعض المقاطع، إلا أن حضوره الإنساني وهدوءه الداخلي منح الشخصية ثقلًا وصدقًا مؤثرين.
العلاقة بين الشخصيتين تبنى على صراع طويل الصمت، وتتحوّل خلال الفيلم إلى حوار بين جيلين، بين أب عاش زمنًا من الصرامة، وابن يبحث عن مساحة للبوح والحب.
من الناحية التقنية، يمتلك الفيلم أدوات إخراجية ناضجة رغم أنه أول عمل روائي طويل لمخرجه محمد صيام ، أما عمر أبو دومة في التصوير فيخلق فضاءً بصريًا خانقًا يعكس ضيق النفس والعزلة، بينما تصوغ الموسيقى التصويرية لـ ليال وطفة طبقة شعورية ناعمة تدعم الحوار الصامت بين الأب والابن.
تفصيلات المكان ليست عشوائية: المصعد المعطل، ضوء النيون، صدى الأغاني القديمة في الخلفية، كلها تتحول إلى استعارات عن الذاكرة والحصار النفسي. كما يستخدم المخرج مقاطع من أغنية «سلام يا صاحبي» كخيط عاطفي يربط الماضي بالحاضر، ويعيد للابن ذكريات الأم الغائبة.
جرح أوسع
«كولونيا» لا يتحدث فقط عن علاقة عائلية، بل عن جرح أوسع في الوجدان العربي: الفجوة بين الآباء والأبناء، بين جيل تشكّل على الصمت والانضباط، وجيل يبحث عن التفسير والاحتواء، تبدو المواجهة في الفيلم كمرآة لواقع عربي مأزوم بالعلاقات الناقصة والاعترافات المؤجلة، وحتى مشاركة الممثل الفلسطيني كامل الباشا تضيف بعدًا رمزيًا لهوية تمتد عبر حدود الجغرافيا، حيث الألم الإنساني واحد، وإن اختلفت اللهجات.
يمثّل «كولونيا» خطوة جريئة في السينما المصرية، فهو فيلم يعتمد على الحوار النفسي والدراما الداخلية أكثر من الأحداث الخارجية، لذلك فهو أقرب إلى لغة المهرجانات منه إلى السينما التجارية، لكنه يفتح بابًا واسعًا أمام تجارب شابة تبحث عن المعنى لا عن الضجيج .. قد يرى البعض أن ضيق المكان والزمان جعله أقرب إلى المسرح منه إلى السينما، إلا أن المخرج نجح إلى حد كبير في تحويل هذا التقييد إلى طاقة درامية متوترة، تمسك المشاهد منذ اللقطة الأولى وحتى النهاية
بقدر ما يبدو «كولونيا» بسيطًا في شكله، فإنه عميق في جوهره. فيلم عن الصمت، عن الذنب، عن تلك اللحظة التي لا بد أن نقول فيها ما تأخر قوله طويلًا. أداء أحمد مالك الناضج، وحضور كامل الباشا الوقور، وإخراج محمد صيام الواعد، تجعل من الفيلم أحد أبرز مفاجآت الدورة الثامنة لمهرجان الجونة.. إنها «ليلة واحدة» فقط، لكنها تكفي لأن تفتح جرحًا طويلاً.. وربما تداويه