نورا أنور تكتب: «ضد السينما» رحلة سعودية بين الحلم والتحدي

عرض فيلم «ضد السينما» للمخرج علي سعيد في الدورة 46 لمهرجان القاهرة السينمائي، على المسرح الصغير بدار الأوبرا، في عرضه العالمي الأول ضمن مسابقة آفاق السينما العربية، ليأخذ الجمهور في رحلة ممتعة عبر تاريخ السينما السعودية، من نشأتها إلى تحدياتها الأولى.

الفيلم الوثائقي، الذي يمتد 118 دقيقة، يروي قصة جيل الثمانينات الذي أحب السينما رغم غياب صالات العرض، والقيود الاجتماعية والثقافية التي كانت تقف ضد عشقه للفن السابع. هنا تكمن المفارقة: حب السينما يتحول إلى فعل شبه مقاوم، وشغف الأطفال يصبح بذرة لصناعة سينما وطنية لاحقًا.

بين الحنين والتحدي

من أولى اللحظات، يضع الفيلم المشاهد في قلب الصراع؛ جيل الثمانينات الذي أحب السينما، لم يكن لديه صالات عرض، ولم تكن هناك بنية تحتية للفن، وكانت البيئة الاجتماعية والثقافية في كثير من الأحيان تقف ضد عشقه للسينما،هنا تكمن أولى المفارقات ، حب السينما يتحول في هذه الظروف إلى فعل شبه مقاوم، حيث يشكل التمسك بهذا الفن تحديًا شخصيًا وجماعيًا في الوقت ذاته.

الفيلم يعيد رسم صورة حية للمجتمع السعودي في تلك الفترة شوارع بلا سينما، محاولات إنتاج أولية، قيود ثقافية تتراوح بين الحذر والرفض الصريح، ومع ذلك، ينجح الأطفال في تحويل الحلم إلى واقع، وتتحول ولعتهم بالشاشة الكبيرة إلى دافع لصناعة السينما نفسها لاحقًا، هذه المفارقة بين الحب والممنوع، بين الشغف والقيود هي ما يمنح الفيلم عمقه وصدقه العاطفي.

توثيق تاريخي بأسلوب سينمائي

ما يميز «ضد السينما» هو القدرة على المزج بين التوثيق التاريخي والسرد السينمائي المشوق. علي سعيد استثمر خبرته الطويلة في صناعة الأفلام ليقدم مادة تجمع بين المقابلات المتعمقة مع رواد السينما السعودية، والمواد الأرشيفية النادرة، والمونتاج الذي ينقل المشاهد بسلاسة بين الماضي والحاضر.

الفيلم لا يشعر المشاهد بثقل المعلومات، بل يجعل التجربة نابضة بالحياة، من خلال المزج بين شهادات شخصية مؤثرة ولقطات تاريخية توثق أولى محاولات الإنتاج والعروض السينمائية. الموسيقى التصويرية، واختيار اللقطات، والإضاءة، كلها عناصر تسهم في خلق جسر بين الحنين إلى السينما القديمة ورؤية المستقبل السينمائي في السعودية.

بين المحلية والعالمية

علي سعيد، المخرج السعودي الحائز على جوائز دولية، يثبت مرة أخرى قدرته على المزج بين المحلية والعالمية، أعماله السابقة مثل «ليمون أخضر» و«بوصلة» و«ترياق» تعكس اهتمامه بالقضايا المجتمعية، بينما فيلمه القصير «رقم هاتف قديم» حصد جوائز مهمة على الصعيد العربي والدولي، ما يمنح «ضد السينما» ثقلًا سينمائيًا يستحق الانتباه.

رسائل الصراع والمفارقة

أحد أبرز عناصر قوة الفيلم هو طرح الصراع بين الحب للفن والقيود المجتمعية. كيف يمكن لطفل أن يتابع شغفه في مجتمع لم يعد بعد لاستقبال الفن؟  وكيف يمكن لصناعة السينما أن تنمو في بيئة تقيّد التعبير الفني؟، هنا يظهر الفيلم كمادة دراسة اجتماعية، لكنه أيضًا تجربة سينمائية إنسانية.

الفيلم يسلط الضوء أيضًا على مفارقات أخرى في الوقت الذي كان فيه المجتمع يتردد في احتضان السينما، كان هناك شغف خفي وحب خالص للفن، دفع الجيل الأول من عشاق السينما لأن يصبحوا فيما بعد روادًا حقيقيين. هذه التناقضات تضيف بعدًا فلسفيًا للفيلم، وتجعله ليس مجرد توثيق، بل رحلة في فهم العلاقة بين المجتمع والثقافة والفن.

التوثيق والدرس المستقبلي

أكثر من كونه فيلمًا عن الماضي، يقدم «ضد السينما» درسًا مهمًا للمستقبل: أهمية التوثيق الأرشيفي وحفظ ذاكرة السينما ليست رفاهية، بل ضرورة ثقافية وفنية. الفيلم يؤكد أن كل لحظة، وكل تجربة، وكل فشل أو نجاح مبكر يستحق أن يسجل، لأنه جزء من تاريخ سينما نشأت في مواجهة الصعوبات ، كما يقدم الفيلم شهادة على الصمود الإبداعي السينما ليست مجرد شاشة وأضواء، بل انعكاس لصراع الإنسان مع القيود، وقوة الإصرار على التعبير الفني، رغم كل ما يحيط به من عراقيل.

تجربة مشاهدة غنية

قدم فيلم «ضد السينما» تجربة مشاهدة غنية ومتعددة الأبعاد، إنه يجمع بين التوثيق التاريخي والتحليل الاجتماعي والسرد السينمائي المشوق، مع إبراز مفارقات الحب للسينما في مجتمع لم يكن مستعدًا لها بعد ، والفيلم هو شهادة على صراع الإنسان مع القيود، وعلى ولع جيل كامل بالسينما، وعلى قدرة الفن على البقاء رغم كل العراقيل.

ضد السينما» ليس مجرد فيلم وثائقي، بل شهادة على عشق السينما الذي تجاوز العقبات، وعلى قدرة الفن على الصمود رغم كل القيود. عرضه في مهرجان القاهرة يمثل فرصة للمشاهد العربي لاكتشاف قصة سعودية ملهمة

كيف أحب الناس السينما، رغم كل ما كان ضدها، وكيف تحولت هذه المحبة إلى صناعة كاملة، تستحق المشاهدة والاحتفاء بها