محمد قناوي يكتب: «زنقة مالقة»..حين تعيد المرأة اكتشاف حياتها في خريف العمر

يقدّم فيلم «زنقة مالقة – Calle Malaga» للمخرجة المغربية مريم توزاني، المشارك في «المسابقة الدولية» لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، والمرشّح لتمثيل المغرب في سباق أوسكار 2026، تجربة سينمائية غنية تمزج بين الدراما والكوميديا الإنسانية، وتطرح أسئلة عميقة عن الذاكرة، الهوية، الجسد، والشيخوخة.

يستند الفيلم إلى حكاية بسيطة: امرأة مسنة، ماريا أنجيلا، تواجه قرار ابنتها ببيع المنزل الذي عاشت فيه طوال حياتها، لكن توزاني تحول هذا الصراع الظاهري إلى رحلة غنية، تتقاطع فيها الهويات، ويعاد فيها اكتشاف الذات في مرحلة يظنها الجميع نهاية الطريق.

المنزل في الفيلم ليس مجرد جدران وأثاث، بل امتداد لشخصية ماريا وسردية حياتها. طنجة، المدينة التي احتضنت الإسبان واليهود والفرنسيين، تصبح فضاءً لهويات متداخلة، ومن هنا يصبح بيع البيت تهديدًا مباشرًا للذاكرة ولوجود ماريا نفسه. كل قطعة أثاث، الثريا القديمة، مشغل الأسطوانات، وحتى الأطباق الملوّنة، تتحوّل إلى حاملات للذاكرة، ومحوهَا يعني محو المرأة.

صراع بين جيلين من الذاكرة

تقدّم توزاني علاقة معقدة بين ماريا وابنتها كلارا، دون الانجراف نحو الميلودراما، حيث تمثل ماريا الهوية المتجذرة بالمكان، بينما ترى كلارا المنزل مجرد ملكية قابلة للبيع. هذا الصراع العائلي يتحول إلى سؤال أوسع عن من يملك حق كتابة السردية: الجيل الذي عاش أم الجيل الذي يريد إعادة ترتيب العالم وفق منطق الحداثة؟

ينتقل الفيلم بشكل مدروس من دراما عائلية مؤلمة إلى نبرة كوميدية إنسانية، تعكس هشاشة الشيخوخة وتحولها إلى مصدر للدفء، مشاهد هروب ماريا من دار المسنين، ورفضها قص شعرها، وحواراتها مع أختها الراهبة، تمنح الفيلم روحًا مرحة لكنها تضعف النبرة الدرامية في النهاية.

يصوّر الفيلم ماريا كامرأة تستعيد رغبتها الجسدية وتعيش تجارب جديدة في السبعين من عمرها، مؤكدًا أن الشيخوخة ليست انطفاءً بل مرحلة اكتشاف الذات والمقاومة. الجسد هنا أداة للتمسك بالذاكرة ومقاومة العزلة والتغيّر.

طنجة كشخصية حية

شوارع طنجة، ضوءها، باعة الأزقة، البحر والسلالم الحجرية، كل ذلك يضفي على الفيلم حضور المدينة كشريك في سردية ماريا، فالانتماء هنا وجودي أكثر منه قومي.

تقدّم كارمن مورا أداءً قويًا ينقل طيفًا واسعًا من المشاعر، من الدهشة والغضب إلى الرغبة والانكسار، بينما يمنح التصوير السينمائي لفيرجيني سورديج الفيلم ملمسًا بصريًا غنيًا، تحوّل فيه الأشياء الصغيرة إلى علامات على حالة نفسية وماضٍ يتداعى.

في النهاية، «زنقة مالقة» فيلم عن امرأة تقاوم محوها، وعن هوية لا تقاس بالدم والورق، بل بالمكان والذكريات والوجدان، عمل ناضج وحميمي، يعكس حقيقة بسيطة ومؤلمة وجميلة: أن الإنسان لا يخاف الموت بقدر ما يخاف أن تمحى ذاكرته، أو أن ينتزع من المكان الذي صار مرآته.