تمثل الجلسة التي أقيمت ضمن «أيام القاهرة لصناعة السينما» بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الـ46 نموذجًا حيًّا لجدل متكرر في المشهد السينمائي العربي: كيف يمكن للسينما العربية أن تنتقل من حدّ المحلية إلى أفق العالمية؟ وهل العالمية هدف في حد ذاته أم نتيجة لطبيعة العمل الفني وصدقه؟
الحوارالذي اداره الناقد الجزائري محمد علال رئيس مهرجان للفيلم المتوسطي، جمع أحمد مالك، وطرزان وعرب ناصر، وعلاء كركوتي، وسارة مانسانيت روي، كشف عن تباين لافت في المفاهيم، لكنه في الوقت ذاته سلّط الضوء على مسار جديد يُعاد تشكيله داخل السينما العربية اليوم.

إعادة تعريف «العالمية»
من اللافت أن أبرز المشاركين- أحمد مالك والمخرجان الفلسطينيان- رفضوا التعامل مع العالمية بوصفها هوسًا أو غاية نهائية .. تأكيد مالك على أن «الانبهار بالعالمية لا يعنيه» يعكس تحوّلًا مهمًا في وعي جيل جديد من الممثلين: لم يعد الوصول إلى المهرجانات الكبرى أو منصات البث العالمية هو المعيار، بل أصبح معيار القيمة مرتبطًا بمدى أصالة التجربة وقدرتها على لمس الجمهور المحلي أولًا.
هذا الوعي الجديد يحرر السينما العربية من عقدة المقارنة الدائمة بالغرب، ويعيد الاعتبار لطبيعة الحكاية المحلية بوصفها مصدر قوة، لا نقطة ضعف. فالأفلام التي وصلت فعلًا إلى العالمية لم تفعل ذلك لأنها «تشبه الآخر»، بل لأنها كانت شديدة الصدق في تعبيرها عن ذاتها.
اللهجة، الهوية، والسوق
يرى كركوتي أن السينما المصرية هي الوحيدة التي كسرت حاجز اللهجة عربيًا، وهو تقييم يستند إلى التاريخ والتراكم الجماهيري، لكنه يكشف أيضًا عن مأزقٍ يعاني منه جزء كبير من السينما العربية: التردد في الانطلاق من خصوصياتها اللسانية والثقافية.
لكن التحليل الأعمق هنا يكمن في إشارته إلى دور المنصات الرقمية؛ فالذائقة العربية لم تعد محصورة في لهجة واحدة، والجمهور بات قادرًا على استيعاب تنوع الإنتاج العربي من السودان إلى العراق مرورًا بفلسطين وتونس، هذا التحول يفتح الباب أمام صناع السينما لتجاوز “مركزية اللهجة” التي سيطرت لعقود، ويعيد تشكيل مفهوم العالمية كنتاج لانتقال العمل عبر منصات متعددة وليس عبر هيمنة سوق واحدة.

صدقية التجربة أقوى من بريق المهرجانات
يشكل خطاب الأخوين ناصر حجر الزاوية في هذه الجلسة. فهما يذهبان إلى منطقة أكثر جرأة: التشكيك في مفهوم «العالمية» نفسه، بل والتشكيك في حيادية المهرجانات الدولية.
إشارة عرب ناصر إلى أن بعض الأفلام تُعرض في مهرجانات بسبب «أجندات» لا يمكن إنكارها، هي اعتراف مهم بواقع الصناعة العالمية التي لا تعمل دائمًا بمعايير فنية بحتة.
ومع ذلك، فإنهما لا يرفضان العالمية، بل يعيدان تعريفها عبر معيار مختلف :العالمية = إحساس صادق يصل إلى المتلقي، مهما كانت لغته أو سياقه.
استحضار عرب لمحمود درويش ليس استعارة شعرية، بل رؤية إبداعية: الانتقال من الخطاب الوطني الصارم إلى خطاب إنساني أوسع، دون التخلي عن الجذور. إنها المعادلة التي يمكن للسينما العربية – خاصة الفلسطينية -أن تبني عليها حضورًا عالميًا مستدامًا.

أين يقف الفنان العربي اليوم؟
اللافت أن النقاش كله دار حول معادلة شديدة الحساسية: الحرية المقيدة بسياق اجتماعي وسياسي.. مالك تحدث عن «ذكاء التعبير»، والأخوان ناصر تحدثا عن «كان ياما كان في غزة» مقابل تعقيدات السياسة، وكركوتي تحدث عن تأثير المتلقي وثقافته، هذا التباين لا يكشف اختلافًا في الآراء بقدر ما يكشف نضجًا جديدًا في رؤية الفنان العربي لوظيفته: لم يعد الفنان محاصرًا بين خيارين -الانغلاق المحلي أو الاستلاب للغرب – بل أصبح قادرًا على إنتاج خطاب ثالث، يراعي الخصوصية وينفتح على العالم في آن واحد.

العالمية ليست وجهة
تكشف الجلسة عن أن السينما العربية تقف اليوم على أعتاب مرحلة انتقالية: مرحلة لا تقاس فيها العالمية بعدد الجوائز ولا بمدى التشابه مع المعايير الغربية، بل بمدى أصالة التجربة، وبقدرتها على أن تكون صادقة بما يكفي لتلامس وجدان الإنسانية كلها.
إن الانتقال «من المحلية إلى العالمية» لم يعد رحلة للخروج من الذات، بل رحلة للعودة إليها، وتقديمها دون تزييف أو تنميط، ولعل هذا هو الدرس الأعمق الذي خرجت به الجلسة: العالمية تبدأ حين يتوقف الفنان عن السعي إليها، ويبدأ في الإصغاء إلى حكايته، وإلى شعبه، وإلى جذوره.
