القاهرة السينمائي الـ46.. افتتاح يليق بعاصمة الفن والإنسانية

بهيبة تليق بتاريخ السينما المصرية، وبجمال يليق بوجه القاهرة، انطلقت مساء الأربعاء الدورة السادسة والأربعون من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في حفلٍ راقٍ جمع بين الفن والفكر والروح الوطنية، في دار الأوبرا المصرية التي تحوّلت إلى مسرحٍ للأحلام ولحظةٍ من الفخر لكل عشّاق السينما.

المشهد الإفتتاحي

كان المشهد افتتاحيًا بامتياز: نجمات ونجوم على السجادة الحمراء، موسيقى مصرية تملأ الأرجاء، وعدسات المصورين تلتقط ملامح البهجة التي غابت طويلًا. على المسرح، عزف النشيد الوطني، فوقف الجميع احترامًا لمصر التي احتضنت السينما منذ أكثر من مئة عام، ثم صعد الفنان حسين فهمي، رئيس المهرجان، بابتسامته الهادئة وكلماته المضيئة التي احتفت بمصر «التي تعيد صياغة حاضرها بخطوات أبنائها، وتثبت للعالم أنها قادرة على صنع المعجزات».

في كلمته، لم يكن حسين فهمي يتحدث كفنانٍ فحسب، بل كحارس لذاكرة وطنٍ كامل. استعاد ملامح مصر في دعمها الدائم لقضايا الإنسانية، من فلسطين إلى السودان ولبنان، مؤكّدًا أن «السينما جزء من مشروع وطنٍ ينهض بثقافته وفنونه وأحلامه». وتلك الجملة وحدها كانت عنوانًا للروح التي تسكن هذه الدورة:

السينما كفعل نهضة.

ثم جاء دور وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو، الذي قدّم واحدة من أجمل كلمات الافتتاح في تاريخ المهرجان، كأنها نصٌّ شعريٌّ عن جوهر الفن السابع. بدأها باستحضار لحظة اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون قبل أكثر من قرن، وكيف جعلت أنامل الفنان المصري من الحجر روحًا ومن الصورة خلودًا، ليربط بين عبقرية الماضي ووهج الحاضر. قال الوزير: «المتحف المصري الكبير سيعيد تعريف معنى الخلود، وسيفتح أمام الفن والسينما أفقًا جديدًا للإلهام».

كان حديثه امتدادًا لرؤية واضحة: أن السينما ليست ترفًا ولا عرضًا على شاشة، بل وعدًا بالسلام والحياة والجمال.

وبين الكلمة والكلمة، امتلأت القاعة بتلك الطاقة التي لا تتكرّر إلا في لحظات ميلاد جديدة للفن. فقدّم حسين فهمي مبادرة ترميم الأفلام المصرية باعتبارها مشروعًا وطنيًا لحفظ الذاكرة، معلنًا أن العمل جارٍ لترميم أكثر من 1400 فيلم من كنوز السينما المصرية، وترجمتها لتصل إلى جمهور العالم. إنها مصر التي لا تكتفي بصناعة السينما، بل تصونها أيضًا.

لمسة وفاء ولحظات التكريم

وفي لفتة وفاء مؤثرة، عرض مقطع مصوّر لنجوم غيّبهم الموت خلال العام، منهم نبيل الحلفاوي، سميحة أيوب، لطفي لبيب، سليمان عيد، سامح عبد العزيز، وأحمد عبد الله. لحظة صمتٍ امتزجت فيها الدموع بالتصفيق، لتؤكد أن الراحلين باقون في ذاكرة الشاشة وفي وجدان الجمهور.

أما لحظات التكريم فكانت ذروة العاطفة في الحفل. فقد سلّم وزير الثقافة جائزة فاتن حمامة للتميز للنجم خالد النبوي، الذي وقف متأثرًا وهو يهدي الجائزة إلى روح والديه وزوجته وأبنائه، وإلى الشعب الفلسطيني، مؤكدًا أن الفن لا ينفصل عن قضايا الإنسان. بعدها صعد المخرج الكبير محمد عبد العزيز ليتسلّم جائزة الهرم الذهبي لإنجاز العمر، فكانت كلمته صافية كالماء: «السينما كلما أعطيتها، أعطتك أضعاف ما تمنحها».

وفي لمسة عالمية، كرّم المخرج التركي الكبير نوري بيلجي جيلان بجائزة الهرم الذهبي لإنجاز العمر، وألقى كلمة قصيرة عبّر فيها عن سعادته بالوجود في القاهرة، المدينة التي طالما ألهمت السينمائيين.

الإعلامية جاسمين طه زكي تولّت تقديم الحفل باقتدار وأناقة، مؤكدة في كلمتها أن السينما ليست صناعة فحسب، بل وجدان وطنٍ وذاكرته. ثم عرض برومو خاص لأفلام المهرجان وبرامجه المتنوعة، ليعلن انطلاق عشر ليالٍ من العروض والحوارات والتكريمات التي تضيء القاهرة بوهج السينما.

وفي ختام الحفل، عرض الفيلم البرازيلي «المسار الأزرق» كفيلم افتتاح، ليبدأ المهرجان دورته الجديدة بروحٍ تجمع بين الإبداع والإنسانية، تحت شعار غير معلن لكنه حاضر في كل تفصيلة:
«من القاهرة.. تبدأ الحكاية»