بقلم : فايق جرادة
يشكّل فيلم «كان يا مكان في غزّة» للأخوين عرب وطرزان ناصر ، والذي يشارك في مهرجان الاقهرة السينمائي في دورته الــ 46 ، إضافة لافتة في مسار السينما الفلسطينية الحديثة ، لا بصفته عملاً روائيًا طويلًا فحسب بل بوصفه محاولة واعية لاقتحام منطقة شائكة تلك المسافة الحسّاسة بين الواقع القاسي والخيال الروائي بين الذاكرة الشخصية والعمل السينمائي
ورغم أنّ الفيلم من إنتاج فرنسا وقطر والبرتقال وألمانيا والأردن وفلسطين إلا أنّ روح وخامة الفيلم منسوجة بخيوط البيئة الغزّية بكل تناقضاتها ووجعها
معالجة سينمائية بصرية
منذ بداية الفيلم يدرك المشاهد أنّ الشقيقين ناصر نجحا في تقديم معالجة سينمائية بصريّة ناضجة تقوم على مبدأ أساسي في الفن نقل الإحساس بالأشياء كما يحسّها ويشعر بها الفنان لا كما تعرَف أو تُقدَّم في الواقع الخارجي وهذا ما جعل الفيلم أقرب إلى تجربة ذاتية مكثّفة منه إلى حكاية واقعية تقليدية، وهو ما جعل الفيلم يمتلك بنية بصرية واعية تعتمد على اكتشاف المسافة داخل الصورة أي استخدام العمق في تحديد التوتر الدرامي تتحرك الكاميرا لتقترب من الواقع لكنها لا تذوب فيه بل تظلّ محافظة على تلك المسافة التي تمنح المشاهد مساحة للتأمل والتفكير
إيقاع الفيلم
تجربتي تقول ان إيقاع الفيلم لا يأتي من المونتاج وحده بل من إيقاع المشاهد نفسه طول اللقطة حجم الكادر ومضمون المشهد كل هذا يجعل المشاهد مشاركًا في خلق الإيقاع لا مجرد متلقٍّ سلبي له، لذلك كان إيقاع الممثل مجد ( اسامة ) دورًا لافتًا لشخصية أسامة تفاعل معه الجمهور بشكل كبير فهو ابن لبيئة منهكة نتيجة عوامل احتلالية وذاتية طارئه على المجتمع الفلسطيني يعمل في محل فلافل بينما يتورط في عالم المخدرات ويعيش مطارد لشرطي فاسد ينتهي به الحال إلى قتله ، لكن المفارقة الدرامية أن أسامة يعود حيًا ضمنيًا من خلال الفن عندما يتم اختيار يحيى – الطالب الأمين – ليمثل شخصية مقاوم يقاوم الاحتلال بالقوه الناعمة ( الصورة ) فيسعى للانتقام لأسامة صديقه والي كان يعمل معه في حل الفلافل ويساعده في تسويق المخدرات بعد أن يكتشف مأساة موته.
إسقاطات واضحة
القوة هنا لا تكمن في مشهد البكاء ذاته بل في صراع الشخصية مع البكاء.، تلك اللحظة التي يحاول فيها الممثل مقاومة الانكسار هي ما يجعل المتلقي يشعر برغبة عميقة في البكاء
وهذه إحدى أهم قواعد الأداء أمام الكاميرا فالممثل في المسرح يشعّ… وفي السينما يفكّر
وقد فكّر مجد ( اسامة ) طويلًا أمام الكاميرا وكان على اتصال مباشر مع عين المشاهد
قدّم الفيلم عدة إسقاطات واضحة على فترة عاشها المجتمع الفلسطيني في غزة حين كان كل شيء مباحًا وهي فترة يمكنك استحضارها وأنت تشاهد الفيلم بكل تفاصيلها القاسية.
نافذة من جانب مظلم
الفقر، الانفلات، الفساد ،غياب الأمان، وانهيار منظومة القيم تحت ضغط الواقع ، هذا الاستدعاء للذاكرة لا يأتي بطريقة مباشرة بل ينفجر داخل المشاهد عندما يرى ما يشبه – إلى حدّ وجع – تلك الأيام التي عاشها الناس بشقاء ، الفيلم هنا لا يدين المجتمع ولا يعمّم بل يفتح نافذة على جانب مظلم كان موجودًا بالفعل مثل كل المجتمعات التي تمر بظروف انهيار وتفكك.
قد يكون عنوان كان يا مكان في غزّة غير قادر على حمل كل هذا الثقل الدرامي داخل الفيلم إذ يوحي بحكاية من الخيال بينما الفيلم يغوص في عالم شديد القسوة والواقعية ومع ذلك ربما قصد المخرجان هذه المفارقة أن يصبح الواقع أقسى من الخيال وأن تتحول ( كان يا مكان ) من صيغة حكاية إلى مرآة للوجع.
تجربة حسية وفكرية
وقد حافظ الفيلم على معادلة دقيقة بين الاقتراب من الواقع دون أن يتحوّل إلى وثيقة مباشرة
وهذا ما يجعل السينما – كما يطرحها الأخوان ناصر – خطابًا يتحرك دومًا نحو الواقع ويعتمد عليه دون أن يتبناه بالكامل الفن هنا ليس تقريرًا؛ بل تجربة حسية وفكرية.
والجميل أن الفيلم ينجح في إبقاء النقد والصورة في خدمة الجمهور فحين لا يكون النقد جسراً بين المؤلف والمتلقي يصبح – كما تقول – ممارسة بلا موضوع. لكن هذا الفيلم أقام الجسر بذكاء.
كان يا مكان في غزّة ليس مجرد فيلم روائي من 90 دقيقة بل عمل يفتح الباب لأسئلة حول الهوية والمجتمع والذاكرة، والقدرة على النجاة وسط الفوضى ، إنه فيلم يعيد تركيب الألم وينقل الإحساس لا الحدث ويقدّم واحدة من أكثر التجارب جرأة في السينما الفلسطينية المعاصرة
واقع حقيقي
بقى ان اقول انه أثناء مشاهدتي للفيلم لم تكن القصة مجرد صور تتوالى بل كانت ذاكرة تستحضر. كل مشهد أيقظ داخلي فترات صعبة عشتها أنا والناس من حولي فترة كان الألم فيها جزءًا من الحياة اليومية ، شعرت بأن الفيلم يلامس تلك السنوات التي حاولنا نسيانها لكنه أعادها بحكمة ولمسة فنية دقيقة، كنت أرى في إسقاطات الفيلم انعكاسًا لواقع حقيقي عشته الانفلات والخوف والفساد والتعب الذي كان يثقل صدور الجميع ومع ذلك لم أشعر أن الفيلم يسيء لغزة بل يفتح نافذة على جانب كان موجودًا ومسكوتًا عنه.
العنوان – رغم أنه لا يحمل كل ثقل القصة – زاد من شعوري بالمفارقة بين الحكاية والواقع وكأن الفيلم يقول حتى القصص تبدأ بالألم حين تكون من غزة
