يدهشنا المخرج البرازيلي المتميز كليبر مندوسا فيلهو من خلال فيلمه الأخير «العميل السري» ، الذى عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي،حيث يذهب الفيلم بعيدا في استحضار التاريخ السياسي للبرازيل في تسعينيات القرن الماضي وبالذات عام 1977 .
الفيلم يشكل عودة عالية المستوى للنجم البرازيلي فاغنر مورا الذى يسجد دور خبير تقني بالإضافة إلى مساهمته في انتاج هذا العمل السينمائي الكبير الذي سيكون حديث المهرجانات ونقاد السينما حول العالم .
يعود خبيرٌ تقنيٌّ إلى مسقط رأسه عام ١٩٧٧ ليلتقي بابنه الصغير ويهرب من البلاد بينما يضيّق عليه قتلةٌ محترفون استأجرهم مسؤولٌ فيدراليٌّ فاسد، وهو في حالة تشبة الاسترخاء على حد النصل..بين البقاء ومواجهة الموت او الفرار الى الخارج هربا من تلك الفئة الضالة التى حكمت وعاثت فسادا ودمارا ..
مشيرين إلى أن الفيلم يمزج مجموعة من الحكايات وايضا الأساطير الشعبية بالذات اسطورة – الساق ذات الشعر – الشهيرة في التاريخ والتراث الشعبي البرازيلي .
يتخلل فيلم “العميل السري” لمسةٌ من العبثية، وهو مستوحى من أسطورة شعبية عن”ساقٍ مشعرة” تتحرك تلقائيًا، مسببةً اضطراباتٍ في منطقة ريسيفي، عاصمة شمال شرق البرازيل، عام ١٩٧٧، عندما كانت البلاد تحت وطأة الديكتاتورية العسكرية، تظهر الساق أو تذكر عدة مرات – إذ تنتزع من أحشاء سمكة قرش ضخمة؛ وتسرق من المشرحة وتتخلص منها الشرطة التي تلاعبت بالأدلة؛ وتصنف على أنها الجاني في قصص الجريمة المثيرة في الصحف الشعبية؛ وتمارس الجنس مع الرجال في أماكن تجمع للمثليين، حيث يمارسون الجنس تحت الأشجار أو على مقاعد الحدائق.
يعدّ هذا العضو المتمرد استعارةً ذكيةً لاضطهاد النظام لمجتمع المثليين، من بين فئات أخرى، بما في ذلك مدخنو المخدرات، وذوو الشعر الطويل، وأي شخص آخر قد يوصف تلقائيًا بالشيوعي. المشهد بأكمله عبارة عن مشهد كوميدي رائع، يبدأ بمشهد رائع لحيوانات الكابيبارا السمينة وهي ترعى في حقل ليلًا قبل أن تنتقل إلى الحديقة، حيث تقاطع كل تلك الحيوية والنشاط في الهواء الطلق فجأةً عندما تخطو الساق خطوةً إلى الأمام.
ورغم ان المشهد يبدو بعيدا عن السياق العام لصيغة احداث الفيلم الا انه يشكل اضافة حقيقية وعمق ساهم في اثراء العمل والتجربة بكافة تفاصيلها .
إنه نوع من الانعطافات الغريبة التي لا تتوقعها في فيلم إثارة سياسي تاريخي، تدور أحداثه حول أب أرمل تتعرض حياته للخطر، لكن لحظات الفكاهة الفوضوية وسط تشويق حقيقي هي بالضبط ما يجعل الفيلم الروائي الرابع للمخرج كليبر ميندونسا فيلهو عملاً أصلياً مثيراً.
هناك أيضاً قطة ملتصقة، بوجهين على جسد واحد؛ وامرأة تعاني من مس شيطاني أثناء مساعدتها على الخروج من دار سينما تعرض فيلم “النذير”؛ ورجل أقل انزعاجاً في نفس العرض يحصل على مص جنسي في الصف الخلفي بينما تتعرض لي ريميك المسكينة للضرب من طفلها “المسيح الدجال”؛ وطفل مهووس بفيلم “الفك المفترس” لدرجة أنه يعاني من الكوابيس ولكنه صغير جداً على مشاهدة الفيلم الذي يحمل شهادة الإصدار الرابع عشر؛ وموضوع سمكة قرش يظهر حتى في حلقة قديمة من مسلسل “باباي” بالأبيض والأسود”.
مع ملاحظة ان الفيلم تجري احداثة تزامنا مع أسبوع الكرنفال، حين يعجّ المحتفلون بالشوارع بمئات الآلاف، وتملأ الموسيقى الأجواء؟ لكن حتى هذا البهجة الجماعية لا تنجو من شبح الفناء. في نهاية الفيلم، يظهر عنوان رئيسي في صحيفة عريضة يقول: “حصيلة قتلى الكرنفال: 91″، بينما تغطّي الصفحات وجه قاتل مأجور ميتًا غارقًا في بركة من الدماء على أرضية صالون حلاقة.
يمتلك المخرج لغة سينمائية هي قريبة من السحر حيث اندماج كل هذه العناصر المتناقضة بشكلٍ طبيعي في الصورة الأكبر، دون أن يخفف ذلك من حدة التوتر أو يضعف من رهانات الحياة والموت للشخصية الرئيسية، المعروفة في البداية باسم مارسيلو،أدّى فاغنر مورا دوره بعيونٍ مفعمةٍ بالعاطفة، مخفيًا وراءه عباءةً من الحزن والألم، في عودةٍ رائعةٍ إلى السينما البرازيلية بعد غيابٍ دام عدة سنوات، لطالما كان ممثلًا بارعًا، لكن فيلم “مندونسا فيلهو” جعله نجمًا سينمائيًا بل ان الفيلم يمثل نقلة كبري في مسيرة هذا النجم والمخرج والسينما البرازيلية بشكل عام .
على الرغم من لمساته الفكاهية وشخصياته المرحة، فإن “العميل السري” فيلمٌ جادٌّ للغاية، يتناول فترةً مؤلمةً في ماضي البرازيل، حين اختفى الناس بأعدادٍ لا تحصى، وتفاوض القتلة المأجورون على الأجور، وحتى المدن النائية التي كانت الديكتاتورية فيها غائبةً إلى حدٍ كبير، شعرت بامتداد نفوذها. إنه يشبه، في الوقت نفسه، فيلم والتر ساليس الحائز على جائزة الأوسكار، “ما زلتُ هنا”، الذي تدور أحداثه الرئيسية في ريو في بداية السبعينيات.
كانت موهبة ميندونكا فيلهو في استكشاف الواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في البرازيل بطرق فريدة واضحة بالفعل في أفلام “أصوات مجاورة” 2012 و”أكواريوس”2016، وخاصةً “باكاراو”2019 ، وهو فيلم غربي مناهض للاستعمار، حيث تحوم أجسام طائرة مجهولة الهوية فوق قرية نائية مُحيت من على الخريطة في ظروف غامضة، لكن هذا الفيلم الروائي الجديد هو الأقوى حتى الآن، ويستحق أن يرفعه إلى مصاف أفضل مخرجي الأفلام المعاصرين في العالم.
ينبض الفيلم بالحياة بفضل مجموعة شخصياتٍ زاخرة، تشبه أعمال الاميركي روبرت ألتمان وهي كثيرةٌ جدًا لدرجة يصعب حصرها – تؤدى دون أي تلميحٍ مبالغ فيه، وبفضل الشعور القوي بمجتمعٍ يتضافر من أجل السلامة من القوى المضطهدة في الخارج، ينغمس الفيلم في إحساسٍ آسرٍ بالزمان والمكان يعبّر عن حب ميندونسا فيلهو الشديد لمكان التصوير.
إنه إنجازٌ كبير، بل انه سيكون بلا شك أحد أفضل أفلام هذا العام.. هكذا هو فيلم – «العميل السري».