يمثل إصدار كتاب «رؤى وتجارب ووهج آسر.. مسرح الألفية الثالثة» للناقد باسم صادق، والاحتفاء به في ندوة خاصة ضمن فعاليات مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي، أكثر من مجرد مناسبة ثقافية عابرة.
فالحدث يكشف ــ بوضوح ــ عن أزمة ممتدة في المشهد المسرحي المصري: غياب مشروع توثيقي مستقر قادر على جمع جهود الأجيال المتعاقبة في سجل مؤسسي يليق بتاريخ المسرح المصري، وهو ما جعل الكتاب يتحول – بغير قصد – إلى بؤرة نقاش أوسع حول معنى التوثيق، وحدود النقد، ومَن يملك حق «كتابة ذاكرة المسرح».

توثيق أم أرشفة؟
منذ اللحظة الأولى بدا لافتًا إصرار المخرج مازن الغرباوي، رئيس المهرجان، على تأكيد أن المشروع «بداية لا أكثر»، وأن الكتاب لا يزعم احتكار التوثيق، بل يقدّم خطوة أولى في طريق أطول. هذا الوعي جاء كرد مباشر على الانتقادات التي طالت المبادرة، والتي اعتبرت أن العنوان قد يوحي بمرجعية شاملة لا تتفق مع طبيعة الاختيار الذي اعتمد في جوهره على رؤية ناقد واحد.
ولهذا بدا تعليق الفنان ميدو عادل مهمًا؛ إذ أشار إلى الفارق بين «التوثيق» و«الأرشفة»، مُلمّحًا إلى حساسية هذا النوع من المشاريع في الوسط المسرحي، حيث يتعامل كل جيل مع أي محاولة تصنيف باعتبارها حكمًا ضمنيًا على قيمته أو إقصاءً لأسماء بعينها. وهنا تتضح الحاجة إلى مشروع مؤسسي شامل يضع معايير واضحة وشفافة، بحيث لا يصبح التوثيق مبادرة فردية، بل عملاً مؤطرًا بضوابط موضوعية.

الدفاع عن «الاختيار النقدي»
مداخلة الكاتب باسم صادق جاءت لتضع الأمور في إطارها الصحيح. فالكتاب، كما قال، ليس محاولة لكتابة «التاريخ الرسمي»، بل قراءة نقدية تستند إلى ما شاهده الناقد على مدار 25 عامًا. وبقدر ما يحمل هذا الطرح من شفافية، فهو يفتح أيضًا سؤالاً مهمًا: هل يكفي «مشاهدة الناقد» معيارًا لاختيار جيل كامل من المخرجين؟
الإجابة هنا تكمن في الاعتراف بأن النقد فعل انتقائي بطبيعته؛ فهو يضيء جوانب ويترك أخرى في الظل. لكن الأزمة لا تكمن في الاختيار ذاته، بل في غياب منظومة أكبر يمكن أن تتكامل فيها الرؤى المختلفة لتكوين صورة أكثر اتساعًا للمشهد.
ما وراء الجدل: جيل يبحث عن الاعتراف
ردود أفعال بعض المخرجين الشباب، سواء بالحماس أو بالاعتراض، تعكس حاجة هذا الجيل إلى الاعتراف بوجوده ومساهمته. فالمسرح المصري، رغم تاريخه الطويل، ما زال عاجزًا عن إنتاج آليات تمنح المبدعين الجدد مساحة آمنة لعرض تجاربهم في سجل معتمد. ولذلك جاء الكتاب ليملأ فراغًا حقيقيًا، ولو بشكل رمزي، وليعيد التأكيد على أن دور المهرجانات لا يقتصر على العروض والجوائز، بل يمتد إلى صناعة ذاكرة ثقافية.
الدعم المؤسسي
يحمل المهرجان، بدورته العاشرة، ملامح مشروع ثقافي وسياحي مشترك، مدعوم من وزارة الثقافة والسياحة ومحافظة جنوب سيناء، بالإضافة إلى جهات رعاية تؤكد أن للمسرح مكانًا داخل إستراتيجية التنمية الشاملة. لكن التحدي الحقيقي يكمن في تحويل هذا الدعم إلى آليات دائمة للتوثيق، بحيث لا يظل الأمر رهين مبادرات موسمية.

الندوة كمنصة للحوار
اللافت أن الندوة لم تكن احتفالية بقدر ما كانت مساحة لنقاش صريح حول معايير التوثيق وأهمية النقد ودور المؤسسات. وقد شكلت مشاركة المخرجين الشباب إضافة مهمة، لأنها أكدت أن الجيل الجديد يدرك قيمة صياغة سرديته الخاصة، ويبحث عن أدوات فعّالة لتثبيت حضوره داخل مشهد مسرحي سريع التغير.
خطوة مهمة لكنها تكشف الفراغ الأكبر
يمثل كتاب باسم صادق خطوة مهمة في مسيرة كتابة الذاكرة المسرحية للألفية الثالثة، لكنه في الوقت نفسه يكشف الحاجة إلى مشروع مؤسسي شامل يتجاوز الرؤى الفردية. فالمسرح المصري لا يفتقر إلى المبدعين، بل إلى آليات لحفظ أثرهم. وهذه الندوة، بما تضمنته من نقاشات جادة، ربما تكون الشرارة الأولى لإعادة النظر في كيفية توثيق الحركة المسرحية المصرية بكامل تنوعها وثرائها.
