تبادل الأفكار حول الإبداع والمنظور السينمائي.. نحو فهم أعمق للسينما كفنٍّ ورؤية

صفاء أحمد آغا – الرباط

شهدت الدورة الثلاثين من مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف لقاءً استثنائيًا جمع عشّاق السينما والفكر في قاعة الفن السابع، مع المفكّر والسينفيلي الدكتور محمد نور الدين أفاية، في جلسةٍ مفتوحة أطرها المخرج والسيناريست محمد مفتكر، احتفاءً بمسار أحد أبرز الأسماء التي جمعت بين العمق الفلسفي والرؤية الجمالية للسينما المغربية.

جاء هذا اللقاء في سياق تكريم الدكتور أفاية خلال حفل افتتاح المهرجان بمسرح محمد الخامس، اعترافًا بمكانته المتميزة في الحقلين الثقافي والفني، وبمساره الأكاديمي والفكري الذي ألهم أجيالًا من الباحثين والمبدعين.

لقاء الفكر والسينما

لم يكن اللقاء كغيره من الندوات، بل حوارًا خصبًا بين الفكر والفن، بين الفيلسوف الذي يرى في السينما سؤالًا عن الوجود، والمخرج الذي يتعامل معها كحلمٍ يُروى بالصورة والضوء.
من موقع كلٍّ منهما، حاول أفاية ومفتكر مقاربة معنى الخلق والإبداع، ورسم تصورٍ يقود نحو فهمٍ أعمق للسينما بوصفها فنًّا يتجاوز التسلية إلى مساءلة الواقع وإعادة تشكيله.

أولًا: الإبداع… جسر بين الذات والعالم

الإبداع السينمائي هو حوار مفتوح بين المخرج وذاته أولًا، ثم بينه وبين المتفرج، كل فكرة، كل مشهد، كل زاوية كاميرا، هي محاولة لتقريب المسافة بين الداخل والكون، بين التجربة الشخصية والأسئلة الكونية الكبرى، وحين يتبادل الفنانون والمبدعون رؤاهم حول معنى الإبداع، فإنهم لا يبحثون عن أساليب جديدة للسرد فقط، بل عن معنى أعمق للوجود الإنساني داخل الإطار السينمائي، فالإبداع ليس غاية جمالية فحسب، بل بحث دائم عن الحقيقة في ظلال الصورة.

ثانيًا: المنظور السينمائي… فلسفة الرؤية

المنظور السينمائي لا يقتصر على الزاوية التي تلتقط منها اللقطة، بل هو موقف فكري وجمالي من العالم، إنه رؤية المخرج للعالم ولذاته: هل يصوّر الواقع كما هو؟ أم كما يتمنى أن يكون؟ هل يرى بعين الحنين أم بعين الثورة؟ بهذا المعنى يصبح المنظور السينمائي بصمة المبدع، وتوقيعه اللامرئي على الفيلم، الفارق بين العمل التجاري والعمل التأملي الذي يسعى إلى إعادة تشكيل وعينا بالعالم، ولذلك فإن الحوار بين المبدعين في المهرجانات والندوات يمنح السينما طاقة متجددة، لأنها تتغذّى من تلاقح الرؤى ومن اختلاف زوايا النظر.

ثالثًا: تبادل الأفكار… مختبر الإبداع الحقيقي

حين يلتقي صنّاع السينما في المهرجانات أو الورش، لا يكون الهدف مجرد عرض أفلامهم، بل تبادل الرؤى والخبرات حول كيفية تشكّل العمل من فكرة إلى واقع بصري، في هذا التفاعل بين الأجيال، وبين المخرج المخضرم وصانع الفيلم الشاب، تتجدّد مفاهيم الإبداع وتختبر جدواه.
إنه مختبرٌ حيٌّ للفكر الفني، تتحوّل فيه التجارب الفردية إلى ذاكرة جماعية تغذي الحقل السينمائي وتوسّع مداركه.

رابعًا: الإبداع في مواجهة العولمة البصرية

في زمنٍ تتشابه فيه الصور وتتوحّد فيه الأذواق، يصبح النقاش حول الإبداع والمنظور السينمائي ضرورةً ثقافية لمقاومة الاستنساخ والسطحية، المنظور المحليّ – المغربي، العربي، الإفريقي – يحتاج إلى فضاءات حوار تعيد تأكيد خصوصيته ضمن المشهد العالمي، فكل نقاش فكري حول السينما هو أيضًا فعل مقاومة ضد التكرار، وتأكيد على أنّ الفن لا يعيش في عزلة، بل في تفاعلٍ دائم مع ثقافات العالم.

السينما… فنّ الحوار الأبدي

السينما، في جوهرها، حوار مفتوح بين الحلم والفكر، بين الخيال والواقع، إنّ لقاءات الفكر والسينما لا تكتفي بتحليل الأفلام، بل تساهم في صياغة وعيٍ جمالي جديد يعيد للفنّ دوره في إضاءة الوجود الإنساني، فما دام هناك من يحلم بعدسةٍ تنير العالم، سيظل الإبداع السينمائي فعلًا حيًّا يقاوم النسيان، ويكتب فصولًا جديدة من قصة الإنسان مع الصورة.