موسيقى تعانق العالم: أوركسترا مزيكا وسليم عسّاف في رحلة فنية بين باريس وبروكسل و«باتاكلان»

في زمنٍ تتسارع فيه الإيقاعات وتتبدّل فيه اللغات، تبقى الموسيقى وحدها قادرة على أن تتجاوز الحدود، وتوحّد القلوب، وتعيد تعريف الانتماء.

من هذا الأفق الواسع، انطلقت أوركسترا “مزيكا” العالمية بقيادة المايسترا الدكتورة أمل القرمازي، في جولةٍ أوروبية حملت الصوت العربي إلى فضاءات جديدة، متوّجةً التعاون الفني المميز مع الفنان اللبناني سليم عسّاف في ثلاث حفلات كبرى على أهم المسارح في فرنسا وبلجيكا، وثالثها المنتظر على خشبة مسرح “باتاكلان” العريق في قلب باريس.

مشروع عربي برؤية كونية

لم تعد “مزيكا”مجرّد أوركسترا، بل كيان فني متكامل يرسم ملامح مشروع موسيقي عربي الطموح برؤية عالمية.

فمنذ تأسيسها، سعت إلى إعادة تقديم الموسيقى العربية بروحٍ أوركسترالية حديثة، تمزج بين الرصانة الأكاديمية والدفء الشرقي، لتثبت أن الهوية ليست نقيض الحداثة، بل بوابتها الأجمل.

وقد تحوّلت الأوركسترا، بقيادة القرمازي، إلى منصّة إبداعية تستضيف أبرز الأصوات العربية في تعاونات نوعية، تعيد تعريف العلاقة بين الشرق وموسيقاه والعالم.

 

لقاء بين الصوت واللحن والهوية

في هذه الجولة، تلاقت قوة الأوركسترا الحيّة مع رهافة الكلمة واللحن التي يحملها سليم عسّاف، الفنان الذي يجمع بين موهبة التأليف والتلحين والغناء.

ففي حفلي باريس وبروكسل، كان المشهد أقرب إلى حوارٍ بين ثقافتين: الأوركسترا، بآلتها الغربية الصارمة وتوزيعاتها السمفونية المبهرة، وسليم عسّاف، الذي صعد إلى المسرح حاملاً شجن الأغنية اللبنانية وروحها المتجدّدة

نتج عن هذا اللقاء مزيجٌ مدهش من الانسجام والعاطفة، حيث تحوّلت الخشبة إلى مساحةٍ يتصافح فيها العود مع الكمان، وتلتقي اللهجة اللبنانية بالفرنسية في لغة واحدة: الموسيقى.

من باريس إلى بروكسل… جمهور يصفّق للهوية

افتتحت الجولة في 7 نوفمبر من مسرح Théâtre du Blanc Mesnil في باريس، حيث امتلأت القاعة بالجمهور الذي تفاعل بحرارة مع برنامجٍ غني أعاد توزيع الكلاسيكيات العربية بلمسة أوركسترالية حديثة، إلى جانب باقة من أغنيات عسّاف التي عرفها الجمهور بصوت نجوم كبار مثل وائل كفوري، صابر الرباعي، نجوى كرم وغيرهم وفي الليلة التالية، انتقلت الأوركسترا إلى العاصمة البلجيكية بروكسل، حيث استضافها مسرح Flagey العريق في حفلٍ أقرب إلى احتفالٍ حيّ بالهوية الموسيقية العربية، الأنغام كانت جسورًا بين الشرق والغرب، بين الذاكرة والحداثة، بين الحنين والدهشة.

“رجّاع ليّي”… الأغنية تولد على المسرح

وفي لحظةٍ امتزج فيها الفن بالدهشة، قدّم سليم عسّاف للمرة الأولى أغنيته الجديدة “رجّاع ليّي” على المسرح قبل صدورها رسميًا.

لحظة ميلادٍ موسيقي أمام الجمهور، غلفتها مشاعر الصدق والشجن، واستقبلتها القاعة بتصفيقٍ طويلٍ أشبه باعترافٍ جماعي بولادة أغنيةٍ مكتملة العاطفة قبل أن تُسجّل رسميًا.

كانت الأغنية بمثابة تتويجٍ رمزي لهذه الجولة، التي لم تكن مجرد سلسلة حفلات، بل إعلانًا عن عودة الروح العربية إلى المسارح الأوروبية.

المايسترا أمل القرمازي… سيدة العصا الذهبية

بقيت المايسترا أمل القرمازي القلب النابض لهذه التجربة، وهي تقود الأوركسترا بثقةٍ واقتدار، تجمع بين الدقّة الأكاديمية والروح التعبيرية.

حركتها على المسرح أشبه بلوحةٍ راقصةٍ من الضوء، تنساب فيها العصا كامتدادٍ للموسيقى ذاتها.
تمنح كل عازفٍ مساحته، وتحتوي اللحن كأمّ تحتضن أبناءها المختلفين، لتصوغ من هذا التنوع وحدةً مدهشة.

هي ليست فقط قائدة أوركسترا، بل رمزٌ لصورة المرأة العربية في موقع القيادة الفنية الرفيعة، تثبت أن الإبداع لا يعرف جنسًا، وأن الموسيقى حين تتجسّد في أنامل امرأة، تكتسب لونًا جديدًا من النعومة والقوة في آنٍ واحد.

“باتاكلان”… موعد جديد مع التاريخ

بعد النجاح الساحق لحفلي باريس وبروكسل اللذين رفعا شعار “كامل العدد”، أعلنت الأوركسترا عن حفلٍ ثالث في 29 نوفمبر على خشبة مسرح “باتاكلان” التاريخي، الذي شهد على مرور أعظم العروض الموسيقية في أوروبا.

اختيار هذا المسرح لم يكن تفصيلاً بسيطًا، بل إشارة رمزية إلى عودة الصوت العربي إلى واحدة من أهم المنصات العالمية، حيث تعزف الموسيقى باعتبارها لغة مشتركة لا تعرف الحدود.

رسالة تتجاوز اللحن

بهذه الجولة، تثبت أوركسترا “مزيكا” أنّ الفن العربي حين يقدَّم برؤية معاصرة وجدية أكاديمية، يمكنه أن ينافس في أرقى المحافل الدولية دون أن يتخلّى عن روحه الأصيلة، هي رسالة تتجاوز اللحن والنغمة، لتقول إن الموسيقى العربية ليست ماضياً يستعاد، بل مستقبلًا يبنى، وفي كل نغمةٍ تعزفها “مزيكا”، يتردّد صدى فكرة أعمق: أن الهوية لا تحفظ بالتكرار، بل بالإبداع.

 الجمال كجسرٍ للعبور

ما بين يدَي أمل القرمازي وصوت سليم عسّاف، وجمهورٍ أوربي يحتفي بالموسيقى العربية، تشكّل المشهد كقصيدةٍ مفتوحةٍ على الأمل، قصيدة تعيد للعالم تذكيره بأن الجمال — مهما تغيّر شكله أو لغته — يبقى القاسم المشترك الأعظم بين البشر.

ومن هنا، لم تكن حفلات “مزيكا” مجرّد عروضٍ موسيقية، بل فصولًا من حوارٍ حضاريّ حيّ، يكتب على خشبات المسارح الكبرى، ويترجم في لغةٍ عالمية واحدة: الموسيقى