يواصل مهرجان VS-Film للأفلام القصيرة جدًا في دورته الثانية ترسيخ مكانته كمنصة عربية ودولية تحتفي بفن “اللقطة المكثفة”، ذلك الفن الذي يحوّل الدقائق القليلة إلى مساحة للتأمل والتعبير والدهشة.
وجاء إعلان الجوائز هذا العام ليؤكد أن المهرجان لا يكتفي بدوره كمنبر للعرض، بل يسعى إلى خلق خريطة جديدة للسينما القصيرة جدًا، حيث تتجاور التجارب المصرية والعربية والدولية في تنوع بصري وفكري يعكس روح العصر.
مصر تتصدر المشهد… من المحلية إلى العالمية
من اللافت أن السينما المصرية هيمنت على معظم الجوائز، بما يعكس حيوية المشهد القصير في مصر، وقدرة جيلها الشاب على الإمساك بروح الزمن الجديد للسينما.
ففوز فيلم “قلوب صغيرة” بجائزة الفيلم التسجيلي أقل من خمس دقائق، يعكس حساسية المخرج تجاه الإنسان الهشّ والعلاقات البسيطة في عالم متسارع، بينما يقدّم فيلم “أطفال ولكن” رؤية إنسانية عن الطفولة في ظل تحديات اجتماعية واقتصادية، ليشارك الجائزة مناصفة مع الفيلم السعودي “الروشتان”، في إشارة إلى تقارب الهمّ الإنساني العربي رغم اختلاف الجغرافيا والثقافات.
أما الفيلم المصري “حلم توت ورمسيس” الفائز بجائزة العمل التجريبي أقل من خمس دقائق، فيمثل رهانًا فنيًا على التجريب البصري واستخدام الرموز والأساطير المصرية القديمة لإعادة تأويل الحاضر.
كذلك، جاء فوز فيلم “صندوق الذكريات” بجائزة الرسوم المتحركة ليبرز تفوق صنّاع الأنيميشن المصريين وقدرتهم على تحويل الخيال الشعبي إلى سرد بصري مؤثر.

البعد الدولي… تنوع المدارس والأساليب
في المقابل،حملت الجوائز الدولية بعدًا مغايرًا من حيث اللغة البصرية والتقنية، الفيلم الفرنسي “نفد الوقت” (Time’s Up) الفائز بجائزة الفيلم الروائي أقل من خمس دقائق، ينتمي إلى المدرسة الأوروبية التي تمزج الدراما الوجودية بالاقتصاد في الصورة، حيث يختزل الزمن في فكرة فلسفية عن العجلة والاختناق الإنساني.
أما الفيلم العراقي “انتباه”، الفائز بجائزة الأعمال الروائية أقل من عشر دقائق، فقدّم معالجة واقعية قوية، تؤكد أن السينما العراقية الجديدة ما زالت تحمل وهج التجربة رغم قسوة الواقع.
كما برز الفيلم الألماني Symphony Collaps في فئة الفيلم التجريبي، ليعبّر عن تداخل الصوت والصورة كحالة فنية أكثر من كونها سردًا، في حين قدّم الفيلم الفرنسي La’amee s’Egypte تجربة رسوم متحركة تعيد قراءة مصر بعين شاعرية من الخارج، في تلاقٍ جميل بين ثقافتين.

لجنة تحكيم متعددة الثقافات… روح عالمية للسينما القصيرة
جاءت لجنة التحكيم برئاسة المخرج الكبير عمر عبد العزيز، لتشكل لوحة عالمية من التنوع الفني، بمشاركة أسماء من مصر، فرنسا، إنجلترا، ونيجيريا، ما أضفى على قراراتها طابعًا توازنيًا بين الحس المحلي والنظرة الكونية.
وجود فنانتين مصريتين مثل شيري عادل ومنال سلامة إلى جانب الأكاديميين والمخرجين الدوليين منح التحكيم تنوعًا بين الرؤية الجمالية والتقنية، وهي تركيبة تؤكد أن المهرجان لا يكرم فقط الأفلام، بل يحتفي أيضًا بتعدد زوايا النظر إلى الصورة السينمائية.

قراءة في الجوائز… ومعنى التتويج
تكشف جوائز هذه الدورة أن مهرجان VS-Film بات يؤسس لمدرسة سينمائية جديدة، لا تقوم على طول الشريط، بل على كثافة الإحساس وذكاء البناء، فالأفلام المصرية الفائزة أثبتت أن السينما القصيرة ليست تمرينًا للهواة، بل مشروعًا فنيًا مكتملًا قادرًا على التعبير عن المجتمع والذات بلغة فنية حديثة، وفي الوقت ذاته، تعكس المشاركة العربية والأوروبية روح المهرجان كمنصة للحوار السينمائي بين الجنوب والشمال، بين التجربة الإنسانية والابتكار التكنولوجي.
يؤكد مهرجان VS-Film في دورته الثانية أن السينما القصيرة جدًا هي فنّ المستقبل، وأن الموهبة قادرة على تجاوز محدودية الزمن لتفتح أبوابًا أوسع للخيال، هي جوائز لا تمنح فقط للأفلام، بل لفكرة المقاومة بالفن، والبحث عن المعنى في زمن السرعة.
لقد نجحت الدورة الثانية في أن تكرّس للمهرجان مكانته كمختبر عربي–عالمي يحتضن الأصوات الجديدة، ويرسّخ مقولة بسيطة وعميقة: أن الدقيقة الواحدة قد تصنع دهشة تستمر عمرًا بأكمله
