محمد قناوي يكتب: سيني جونة 2025.. استثمار في الموهبة لا في الجوائز

في ختام الدورة الثامنة لمهرجان الجونة السينمائي، التي تم اسدال الستار عنها مساء أمس- الجمعة- أثبت برنامج “سيني جونة لدعم إنتاج الأفلام”، مرة أخرى أنه ليس مجرد منصة لتوزيع الجوائز، بل مختبر حقيقي لإعادة بناء صناعة السينما العربية من الجذور، فبجوائز تجاوزت قيمتها 300 ألف دولار أمريكي، قدمت المنصة دعمًا متنوعًا، ماديًا وخدميًا، غطى مراحل التطوير وما بعد الإنتاج، في مشهد يعكس نضج التجربة واتساع تأثيرها.

فمنذ انطلاقها، وضعت سيني جونة هدفًا واضحًا: دعم المواهب العربية الواعدة وربطها بشبكة تمويل وتوزيع عالمية، واليوم، تبدو هذه الرؤية وقد تبلورت في دورة ناضجة، شارك فيها 19 مشروعًا عربيًا من مختلف الدول، لتخرج منها 17 مشروعًا فائزًا بـ29 جائزة، في رقم يعكس مدى الإقبال والثقة التي باتت تحظى بها المنصة في الأوساط السينمائية العربية والدولية على حد سواء.

كلمات عمرو منسي، المدير التنفيذي لمهرجان الجونة، جاءت كتلخيص لتلك الرؤية حين أكد أن “سيني جونة باتت محطة رئيسية لصناعة السينما العربية”، مشيرًا إلى النجاحات المتكررة التي حققتها الأفلام المتخرجة من المنصة في المهرجانات العالمية.

أرقام تكشف اتساع الأثر

خلال أيام المنصة، شهدت سيني جونة 114 اجتماعًا فرديًا بين صناع المشاريع والمؤسسات المانحة وشركات الإنتاج والمهرجانات العالمية، بحسب ما كشف الناقد أحمد شوقي، رئيس المنصة.هذه الأرقام ليست تفصيلًا إداريًا، بل دليل على التحول البنيوي الذي تشهده صناعة السينما العربية: فالدعم لم يعد يقتصر على التمويل، بل يمتد إلى التدريب، والاستشارات، وتبادل الخبرات، ما يجعل المنصة مساحة للتفاعل الإبداعي الحقيقي.

تنوع لافت في الجوائز والمشروعات

من تونس ولبنان إلى مصر والمغرب والسودان والعراق والأردن والسعودية، حملت قائمة الجوائز مزيجًا من الأصوات الجديدة والرؤى الجريئة.

فقد فاز مشروع “ملح” (تونس، فرنسا، بلجيكا، الدنمارك، قطر) للمخرج رامي جربوعي بأفضل مشروع في مرحلة التطوير، بينما حصد فيلم “الرجل الذي ينحني أمام الزهور” (لبنان) للمخرجة إليان الراهب جائزة أفضل فيلم في مرحلة ما بعد الإنتاج.

لكن المفاجأة الأبرز كانت النجاح المتكرر لمشروع “حلم أمريكي: عودة الكابتن كابونجا” (مصر، السعودية – إخراج أمير الشناوي)، الذي نال ست جوائز متنوعة ما بين مالية وخدمات إنتاج وصوت وترويج، ليصبح المشروع الأكثر تتويجًا في نسخة هذا العام.

كذلك برزت أفلام مثل “باراديس بيروت” و”حكايات الحب الأربعة” و”حيوانات” و”كي طيّح البقرة!” ، بما تمثله من مقاربات سردية مختلفة تعكس تنوع التجارب السينمائية العربية الجديدة بين الوثائقي والروائي، وبين الشخصي والسياسي.

صوت جديد للسينما العربية

ما يميز نسخة هذا العام هو انفتاحها على جيل جديد من المخرجين، نصفهم تقريبًا يقدّم مشروعه الأول أو الثاني، وهو ما يعني أن سيني جونة باتت مصنعًا حقيقيًا للمواهب العربية القادمة، توازي في تأثيرها أهم صناديق دعم السينما في المنطقة مثل «بيروت دي سي» و«صندوق البحر الأحمر».

ولعل الأهم أن المنصة استطاعت أن تحافظ على توازنها بين الفن والصناعة؛ فهي لا تحتفي فقط بالجماليات الإبداعية، بل تضع نصب عينيها ضرورة استدامة الإنتاج، وضمان قدرة هذه المشاريع على الوصول إلى جمهورها العربي والعالمي.

من خلال نتائج هذا العام، تؤكد سيني جونة أن مستقبل السينما العربية لم يعد مرهونًا بالمهرجانات الكبرى أوالمنح الأوروبية فقط، بل أصبح في يد جيل جديد من المنتجين والمخرجين والمؤسسات العربية القادرة على التمويل والإدارة والتوزيع.

إنها تجربة تستحق التوقف عندها بوصفها نموذجًا لمهرجان عربي يتجاوز فكرة العرض إلى فعل الإنتاج، ويجعل من الدعم الثقافي ممارسة يومية لصناعة الفن، لا احتفالًا عابرًا به