ذاكرة تمشي… سيرة فلسطيني يبحث عن المعنى

بقلم : المخرج فايق جرادة

يعرض فيلم فلسطيني على الطريق لأول مرة في مهرجان القاهرة السينمائي ويقدّم فيه المخرج إسماعيل هباش عملاً لا يكتفي بالسير بين المدن فقط بل يسير في الذاكرة والمشاعر والأسئلة الكبرى التي تشبه جراح هذه الأرض.

الرحلة التي تبدأ من الناصرة وتمتد إلى جنين  وبرقين وسبسطية ونابلس وبيت لحم والقدس ليست مجرد انتقال جغرافي بل محاولة لفهم الطريق التي سار عليها السيد المسيح يومًا وكيف أصبحت اليوم محاطة بالحواجز والجنود والأسلاك وتغير كل شي .

مسار السيد المسيح

السؤال دائما يرافق الفيلم كيف استطاع السيد المسيح أن يعبر هذه الدروب؟ وكيف تحولت اليوم إلى هذا الضيق والقسوة؟ لكن إسماعيل لا يترك السؤال معلّقًا بل ينسجه بين التاريخ والواقع بين مسار السيد المسيح ومسار الفلسطيني الذي ما زال يحمل صليبه حتى اللحظة.

داخل الفيلم يشاهد المتلقي المسار الشخصي للمخرج بثقله وصدقه وفاة زوجته تنعكس على إيقاع الرحلة وتفاصيلها وتبدو كجرح داخلي يرافق كل خطوة نشعر بأن إسماعيل لا يصوّر الطريق فقط بل يواجه غيابه الخاص ويتنقّل كمن يبحث عمّا تبقّى من الحياة في الأماكن التي تسكنها الذكرى سواء في نابلس أو سبسطية أو غيرهما من المدن. وحين يمسك بوم الصوت ويسير بين الكنائس يبدو كأنه يمشي في ممر من الحزن النبيل… حزن يحوّل الألم إلى معنى.

تجربة بصرية

وباعتباري من عشّاق حركة الكاميرا أستطيع القول إن الفيلم يقدّم واحدة من أجمل التجارب البصرية في حركة الكاميرا عند إسماعيل هى ليس  عينًا تراقب فحسب بل روح تتحرك تتنفس وتنحني وتنهض كانت متحركة دائمًا تستقطب المشاهد ببطء أحيانًا وباندفاع أحيانًا أخرى كأنها تشتغل على قلب المتلقي مباشرة.

في القدس وأزقتها الضيقة وفي نابلس القديمة وفي صور الأطفال وفي مخيم جنين بدت الكاميرا وكأنها تلمس الجدران وتتحسس الذاكرة، وفي بيت لحم حيث ولد السيد المسيح كانت الحركة أهدأ وأقرب إلى الخشوع كأنها تعيد ولادة المشهد من جديد.

ويتميّز الفيلم أيضًا بمتوالياته المشهدية الناعمة بين اللقطات حيث تأتي الانتقالات بانسياب تعبّر عن نفس طويل لدى المخرج نفسٍ يرفض الاستعجال ويمنح الصورة وقتها كي تتنفس لا خدش بصري ولا اضطراب في المونتاج بل تناغم يشي باحترام للمكان وللزمن وللمشاهد، وفي كل مدينة يزورها إسماعيل من الناصرة إلى برقين وسبسطية ونابلس كان الاحتلال حاضرًا بثقله حواجز منع سفر إغلاق طرق وإحساس دائم بأن الطريق لم تعد ملكًا لأصحابها.

الألم الشخصي

حكاية المخرج مع الحواجز ليست مجرد جزء من الفيلم بل امتداد لألمه الشخصي ولألم كل فلسطيني تُقيّد حركته في أرضه،وتبلغ الرحلة أحد أكثر مشاهدها قربًا إلى الروح حين يقف إسماعيل صامتًا أمام مبنى قطار مهدوم كان يوصل الشرق بالقرب والشمال بالجنوب هناك صمتٌ كثيف يختصر الطريق كلها صمتٌ يجعل المشاهد يطرح سؤالًا موجعًا لو عاد المسيح اليوم وسار بين هذه الجدران والأسلاك… ماذا سيقول؟

وتأتي صور غزة داخل الفيلم كمعادل بصري شديد الذكاء لقطات تعيدك فورًا إلى التاريخ وتبدو وكأنها تقول غزة التي ما زالت تباد… هي استمرار لكل هذا الألم الذي نحمله الربط جاء عميقًا وهادئًا بلا مباشرة لكنه يضع غزة في صلب الحكاية وفي مركز المعنى.

إسماعيل كان ذكيًا جدًا في عمله ذكاءٌ في البناء وفي التقطيع وفي إدارة الإيقاع الذي جعل الجميع يصفّق له بحرارة في النهاية.

الإيقاع كان واضحًا وممتدًا يشتغل على الوجدان ويشدّ الصورة إلى عمقها الروحي والإنساني.

فلسطيني على الطريق فيلم يرهقنا بجماله ويتعبنا بصدقه ويمتعنا بحساسيته السينمائية العالية.

آه يا صديقي… أتعبتنا وأمتعتنا في الوقت نفسه ، إنه رحلة في الفقد والإيمان والذاكرة وفي فلسطين التي ما زالت تمشي رغم تغيّر الطريق وتبدّل الزمن.

عمل وثائقي سينمائي بامتياز يحمل جمال الصورة وعمق الألم وجرأة الحكاية ، لم يعد الحال كما هو… ولا الطريق كما كانت.