يأتي الماستر كلاس الذي قدّمه المخرج مازن الغرباوي ضمن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان القاهرة الدولي للطفل العربي بوصفه حدثًا يتجاوز إطار التدريب التقليدي، ليقدّم طرحًا فكريًا حول مستقبل المسرح العربي في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا وتتغير فيه المفاهيم الجمالية للإخراج.
فالورشة لم تكن مجرد شرح تقني أو استعراض تاريخي، بقدر ما كانت قراءة في دور المخرج المعاصر ومسؤوليته في إعادة صياغة لغة العرض المسرحي بما يتوافق مع تحديات القرن الحادي والعشرين.
أولًا: الإخراج المسرحي كخطاب معرفي لا كحرفة تقنية
المدخل الأكاديمي الذي بدأ به الغرباوي ورشته يعكس رؤية واضحة: المخرج ليس “صانع عرض” فقط، بل هو مفكّر يتعامل مع النص، الممثل، الفضاء، والضوء بوصفها أدوات لبناء خطاب بصري وفكري.
وفي حديثه عن دور المخرج بوصفه مفسرًا للنص وصاحب رؤية شاملة، بدا واضحًا أنه يكرّس فكرة المخرج المؤلف الذي يقف بين المتلقي والعمل بوصفه الوسيط الأكثر تأثيرًا في تحديد معنى العرض وتوجهه.
ثانيًا: استدعاء التاريخ لتأسيس الحاضر
اعتماد الغرباوي على استعراض تطور نظرية الإخراج من ساكس-مايننغن مرورًا بستانسلافسكي ومايرهولد وبريخت وبروك، لم يكن مجرد سرد تاريخي، بل كان محاولة لوضع المتلقي أمام منظومة من التحولات التي مرّ بها المسرح العالمي، فالورشة، بهذا المعنى، تؤكد أن فهم الماضي شرط أساسي لمن يريد أن يبتكر في الحاضر، وأن المخرج العربي لا يستطيع أن يطوّر لغة مسرحه دون أن يعي الجذور النظرية التي انطلق منها الإخراج في صورته الحديثة.

ثالثًا: التكنولوجيا ليست ترفًا بل جزء من لغة المسرح الجديدة
الجزء الأكثر جوهرية في الماستر كلاس يتمثل في إصرار الغرباوي على إظهار أن التكنولوجيا- من الضوء المتطور إلى الفيديو مابينغ وتقنيات المسرح الأسود- لم تعد إضافات شكلية، بل تحولت إلى ركائز جمالية ومعرفية تشكّل بناء العرض.
في استعراضه لأعماله، بدا واضحًا أنه ينتمي إلى جيل يرى في التكنولوجيا وسيلة لتوسيع حدود الخيال المسرحي، وليس لتزيين الخشبة.
عروض مثل «هاملت بالمقلوب» و«حلم ليلة صيف» و«جسم وأسنان وشعر مستعار» تمثل أمثلة على تجريب واعٍ يوازن بين التقنية والفكرة، وبين البصري والمضموني.
رابعًا: المسرح الموجّه للطفل… مساحة لإعادة بناء الذائقة
إقامة هذا الماستر كلاس ضمن مهرجان مخصّص للطفل العربي ليست مصادفةـ، فالورشة تضع سؤالًا مهمًا: كيف يمكن للمسرح أن يساهم في بناء المتلقي الصغير؟
من هنا، يصبح كلام الغرباوي عن تكامل العناصر الفنية وتوجيه التكنولوجيا لخدمة الفكرة جزءًا من مشروع أشمل يهدف إلى ترسيخ وعي مسرحي مبكر لدى الجيل الجديد، وهو ما يعكس فلسفة المهرجان برمتها.
خامسًا: المخرج العربي بين الهوية والتحديث
تجربة الغرباوي، كما قدّمها، تُبرز قدرة المخرج العربي على الجمع بين الهوية المسرحية المحلية والاتجاهات الجمالية العالمية. فهو يستند إلى تاريخ المسرح المصري والرؤية الاجتماعية التي يطرحها في أعماله، وفي الوقت ذاته ينخرط في استخدام أدوات المسرح الحديث، الأمر الذي يجعل تجربته نموذجًا معاصرًا لحوار خلاق بين الأصالة والتجريب.

سادسًا: دلالة اختيار الأعمال… مسار تطور رؤية إخراجية
اختيار الغرباوي لعروض معيّنة من تاريخه لم يكن عشوائيًا؛ بل يعكس مسارًا متصاعدًا من التجريب:
«هنكتب دستور جديد»… تأسيس وجرأة سياسية وفنية.
«حلم ليلة صيف»… تحديث شكل المسرح الموسيقي.
«هاملت بالمقلوب»… رؤية تفكيكية معتمدة على التكنولوجيا.
«جسم وأسنان وشعر مستعار»… ذروة النضج الإخراجي وتكامل السينوغرافيا.
هذا المسار يشير إلى أن الغرباوي لا يقدم عروضًا منفصلة، بل مشروعًا فكريًا متصلًا يتطور عبر السنوات.
الماستر كلاس الذي قدمه مازن الغرباوي يمكن اعتباره بيانًا فنيًا يحدد ملامح المسرح العربي في المرحلة المقبلة: مسرح يدرك جذوره، يعترف بدور المخرج بوصفه مفكرًا، ويستخدم التكنولوجيا بوصفها لغة جديدة للتعبير، مع الإيمان العميق بدور المسرح في تشكيل وعي الأجيال الصغيرة.
بهذا المعنى، لم يكن اللقاء مجرد درس في الإخراج، بل منصة لإعادة طرح سؤال جوهري:
كيف يبقى المسرح فنًا حيًا قادرًا على مخاطبة المتلقي العربي وسط عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة؟
