« ثقافة الموانئ البحرية في السينما » من أبرز اصدارات الدورة الأولي لمهرجان بورسعيد السينمائي التي اختتمت أعمالها الأثنين الماضي وهو من تأليف المخرجة أميرة الفقي، المنسق الفني العام للمهرجان، والكتاب يقدّم مقاربة فكرية وجمالية واسعة حول صورة الميناء في السينما العالمية والعربية، بوصفه ليس مجرد فضاء تجاري أو نقطة عبور، بل أيقونة ثقافية واجتماعية وسياسية تحمل دلالات إنسانية عميقة.
الرؤية التحليلية للكتاب
يبدأ الكتاب بتحديد أن الموانئ ليست مواقع مادية عابرة، بل فضاءات مفتوحة تتقاطع فيها الهويات والثقافات والرحلات، فالميناء، كما يوضح، هو مسرح للتلاقي والانتظار والرحيل والعودة، وهو أيضاً صورة مكثفة للاغتراب والانتماء في آن واحد، تستند المؤلفة إلى دراسات سينمائية جادة تناولت الموانئ علي الشاشة الكبيرة، لتؤكد أن الميناء يشكّل رمزاً مركباً يعبّرعن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
يستعرض الكتاب بدايات حضور الميناء منذ الأفلام الأولى في أواخر القرن التاسع عشر، حيث ارتبط بتوثيق الحياة اليومية للعمال والبحارة، ثم تطور ليصبح رمزاً درامياً وسياسياً أفلام مثل الفيلمين الامريكيين On the Waterfront انتاج عام 1954 و Casablanca انتاج عام 1943 ووظّفت الميناء كمساحة لصراع أخلاقي وسياسي، فيما تحولت موانئ المتوسط – خصوصاً الإسكندرية وطنجة وبورسعيد– إلى فضاءات لتمثيل الذاكرة والهوية والتحولات الطبقية.
الميناء في السينما العربية: خصوصية بورسعيد
يحتل فيلم بورسعيد – المدينة الباسلة (1957) موقعاً محورياً في الكتاب، إذ يبرز الميناء كرمز للمقاومة الوطنية في مواجهة العدوان الثلاثي، ليتجاوز حدود المكان إلى دلالة وطنية كبرى، كما يشير الكتاب إلى توظيف الميناء في أفلام مصرية أخرى كفضاء يعكس الصراعات الاجتماعية (التهريب، الفقر، الاغتراب)، موازياً بذلك صورته في السينما المغاربية والفرنسية حيث ارتبط بالتهريب والمقاومة أيضاً.
الأبعاد الجمالية والتقنية
يناقش الكتاب كيف استغل السينمائيون العناصر البصرية (الضوء، البحر، السفن، الضباب) والصوتية (صفارات السفن، حبال الميناء، ضجيج الأمواج) لصياغة هوية سينمائية خاصة للموانئ. فالضباب مثلاً تحوّل إلى عنصر متكرر لتجسيد الغموض والقلق الوجودي،كما لعب المونتاج وإيقاع الحركة دوراً في بناء دراما الميناء بين البطء التأملي والسرعة الواقعية.
البعد الرمزي والسياسي
يكشف الكتاب أن الميناء ليس خلفية ديكورية فحسب، بل هو فضاء سياسي واجتماعي مفتوح على جدلية الداخل والخارج، الوطن والمنفى، الأمل والخذلان. في السينما العربية خاصة، ارتبط الميناء بأسئلة الهوية والحرية والتهريب والهجرة غير النظامية، ليغدو مرآة للتحولات التاريخية الممتدة من الاستعمار والمقاومة حتى قضايا الهجرة المعاصرة.
المقارنة العابرة للثقافات
يتوسع الكتاب في عقد مقارنات بين صور الموانئ في السينما الأوروبية (الإيطالية، الفرنسية، الألمانية) والعربية، مشيراً إلى خصوصية المتوسط كفضاء مشترك تلتقي فيه ثقافات متباينة، حيث يصبح الميناء نقطة تماس بين المحلي والعالمي، بين الأسطورة والواقع.
الخلاصة : يتميّز الكتاب بثراء مرجعي وجمالي، ويمنح القارئ تصوراً متكاملاً عن حضور الموانئ في السينما كرمز ثقافي مركب، غير أن نقده الأبرز يتمثل في تركيزه الكبير على الجانب التاريخي والجمالي، بينما تبقى مساحات الحاضر السينمائي العربي – خاصة ما يتصل بأفلام الهجرة غير الشرعية أو التحولات الاقتصادية الراهنة – أقل إضاءة مما كان متوقعاً، فالتساؤل يظل مفتوحاً: هل يكتفي الكتاب بتأريخ صورة الميناء في السينما، أم يمهّد لبناء رؤية جديدة تدفع المخرجين العرب نحو استثمار هذا الفضاء كأداة فنية لقراءة أزمات الحاضر وأسئلته؟