الأرشيف.. مشروع وطني يعيد رسم خريطة ذاكرة الفن المصري المستقل

يشكّل تدشين المشروع الوطني لأرشيف الفرق والمهرجانات الفنية المستقلة، بمسرح المعهد الثقافي الإيطالي في القاهرة، واحدة من أهم الخطوات المؤسسية التي تتخذها وزارة الثقافة في السنوات الأخيرة، ضمن رؤية شاملة لإعادة بناء البنية التحتية للقطاع الثقافي المصري.

فالمشروع لا يعد مجرد مبادرة للتوثيق، بل يمثل تحولًا استراتيجيًا في طريقة تعامل الدولة مع الإنتاج الفني المستقل، الذي ظل طويلًا خارج مظلة التوثيق الرسمي والدعم المؤسسي.

حسان: المشروع استجابة لحاجة ملحّة وضرورة مؤسسية

في كلمته خلال حفل التدشين، أكد المخرج عادل حسان، رئيس المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، أن المشروع جاء استجابة لحاجة ملحّة كشف عنها غياب قاعدة بيانات دقيقة وضعف التواصل بين المركز والشارع والمؤسسات والكيانات الفنية المستقلة.

وأوضح أن هذا الغياب أدى إلى تشتت المعلومات وفقدان الكثير من التجارب الفنية، وهو ما استدعى إنشاء مشروع «مستقر ومهني» يعيد تنظيم العلاقة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع الفني المستقل.

وأشار حسان إلى أن المركز عمل خلال الأشهر الماضية على إعداد تصور شامل لأرشيف وطني متكامل يوحد الجهود ويوفر بنية مهنية طويلة الأمد.

وقال إن المشروع لا يقتصر على جمع البيانات فحسب، بل يشمل خدمات بحثية وفنية، وتوفير مساحات ثقافية للفعاليات، ودعمًا لوجيستيًا للمهرجانات، بما يضمن مشاركة عادلة ومنظمة للفرق المستقلة.

وشدد على أن المشروع يحظى بدعم مباشر من وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو، الذي وجّه بضرورة امتداد العمل إلى المحافظات عبر فرق متخصصة بالتعاون مع الهيئة العامة لقصور الثقافة لضمان شمولية التنفيذ.

من المبادرات الفردية إلى العمل المؤسسي

على مدى عقود، ظل التوثيق الثقافي في مصر رهين مبادرات فردية أو محاولات مؤسسية متفرقة لم تكتمل، ما ترك مساحة واسعة من المشهد الفني خارج التاريخ الرسمي.

ومع إطلاق هذا المشروع، ينتقل المشهد الفني المستقل من الهامش إلى قلب الذاكرة الوطنية، في خطوة تعكس وعيًا مؤسسيًا بأهمية حفظ هذا التراث بوصفه جزءًا من الهوية الثقافية المصرية.

إدراك الوزارة والمركز القومي للمسرح لحجم الخسارة الناتجة عن غياب التوثيق يكشف عن تحول حقيقي في طريقة التفكير تجاه الفن المستقل، باعتباره رافدًا أساسيًا للتجريب والتجديد في المسرح والموسيقى والفنون الحية.

الأرشيف كحاضنة للهوية الثقافية

يقدم المشروع فهمًا جديدًا لدور الأرشيف، إذ لم يعد مجرد مخزن وثائق، بل منصة معرفية لإنتاج وتداول المعلومات.

ومن خلال هذا الأرشيف يمكن: تتبع تطور الحركة المسرحية والموسيقية،  إنقاذ المواد المهددة بالاندثار بسبب رحيل أصحابها أو توقف الفرق، توفير مرجعيات دقيقة للباحثين والأكاديميين، خلق ذاكرة جماعية تعيد الاعتبار لتجارب الفن المستقل.

وفي هذا السياق، جاءت مداخلة المخرج أحمد العطار لتؤكد خطورة الوضع، إذ أشار إلى ضخامة الأرشيف المنسي والمهدد بالضياع، معتبرًا المشروع فرصة حقيقية لإعادة تنظيم هذا التاريخ المتناثر.

التكنولوجيا كرافعة للذاكرة

من أهم ملامح المشروع اعتماده على أدوات تكنولوجية حديثة تتيح إنشاء منصة رقمية تفاعلية، ما يجعل التوثيق عملية حيّة وقابلة للتحديث المستمر.

وقد قدمت منى سليمان عرضًا شاملًا لهيكل المشروع، تضمن: آليات التسجيل والتصنيف، الدعم الفني واللوجيستي، برامج التدريب والتطوير، منهجيات التقييم والتحديث الدوري لتتحول الفكرة من مجرد «أرشيف» إلى منظومة معلوماتية حية.

شراكات دولية لرؤية أكثر انفتاحًا

احتضان اتحاد المعاهد الثقافية الأوروبية (EUNIC) لانطلاق المشروع يعكس انفتاحًا جديدًا في إدارة القطاع الثقافي، ورغبة واضحة في الاستفادة من الخبرات الدولية في مجال التوثيق وإدارة البيانات. هذا التعاون يعزز أدوات المشروع ويمنحه معايير عالمية في التصنيف وإتاحة المعرفة.

لجنة تنفيذية تعكس قيادة جماعية

جاء تشكيل اللجنة التنفيذية من خليط متنوع من المخرجين، الإداريين، الباحثين، وخبراء الرقابة والتراث، بما يعزز فكرة القيادة الجماعية بعيدًا عن المركزية التقليدية. هذا التنوع يضمن تمثيل أغلب أطياف المشهد الفني، ويمنح المشروع مرونة أكبر في التعامل مع تحديات التوثيق.

الأرشيف يمتد إلى المحافظات

توجيه وزير الثقافة بامتداد المشروع خارج القاهرة خطوة محورية، خاصة أن العديد من الفرق والمهرجانات الإقليمية ظلت تعمل لسنوات في غياب شبه تام للتوثيق، امتداد المشروع إلى المحافظات يعيد رسم خريطة المشهد المسرحي والموسيقي، ويضمن عدالة التمثيل لكل التجارب.

في مرحلته التأسيسية الأولى، يظهر المشروع الوطني للأرشيف كخطوة جادة لاستعادة الذاكرة الفنية المصرية، والاعتراف بقيمة الإنتاج المستقل كجزء أصيل من الثقافة الوطنية، فهو ليس فقط مشروعًا للتوثيق، بل بنية تحتية جديدة تهدف إلى: تنظيم الحقل الفني، تعزيز الشفافية، توفير أدوات بحثية حديثة، حماية التراث المسرحي والموسيقي، دعم استدامة الإبداع

وإذا اكتمل المشروع وفق خططه، فإنه سيمثل تحولًا جذريًا في إدراك «التراث المعاصر» ويضع مصر في موقع ريادي في مجال توثيق الفنون الحية