يقدّم مسلسل «كارثة طبيعية» للمخرج حسام حامد والمؤلف أحمد عاطف فياض، بطولة محمد سلام وجهاد حسام الدين وحمزة العيلي وكمال أبو رية، تجربة درامية تتكئ على الكوميديا السوداء لكشف الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية التي تطحن المواطن المصري البسيط.
ورغم طابعه الكوميدي، إلا أن العمل يذهب إلى مناطق أكثر قسوة، ليصبح مرآة ساخرة ومريرة في آن واحد لواقع تتشابك فيه الأزمات اليومية حتى تبدو وكأنها “كارثة طبيعية” لا يمكن السيطرة عليها.
دراما من قلب البيت المصري
ينطلق المسلسل من حكاية بسيطة تبدو عائلية الطابع، لكنها تتضخم سريعًا ، شاب من أسرة متوسطة الدخل، حديث الزواج، يسعى لبناء حياته وسط ضغوط لا تنتهي.
الصدمة الأولى تأتي مع اكتشاف حمل زوجته في خمسة توائم رغم اتفاقهما على تأجيل الإنجاب، ثم تتحول المفاجأة إلى زلزال حين تلد الزوجة سبعة توائم دفعة واحدة، وكأن القدر قرر أن يسخر هو الآخر من هشاشة حياة هذا الشاب.
هنا يبدأ العمل في رسم خريطة دقيقة للأزمات التي يعيشها المواطن ارتفاع الأسعار، جشع المستشفيات، أزمة الإيجارات التي تضاعفت بسبب «ضيوف الدول الأخرى»، انقطاع الدعم الحقيقي عن أصحاب الاحتياجات، وصعوبة توفير الحاجات الأساسية للأطفال، وصولًا إلى استحالة شراء «اللبن والبامبرز»، وكأننا أمام محاكاة ساخرة لكن واقعية لانهيار منظومة الرعاية الاجتماعية.
محمد: من مواطن مسحوق إلى نموذج وجودي
يؤدي محمد سلام الدور ببراعة لافتة، جامعًا بين الانفعال والاتزان، وبين الضحك الموجوع وردود الفعل العفوية.
يتحول محمد من زوج يحلم بالاستقرار إلى رجل يطحنه الضغط لدرجة التفكير في الإجهاض ثم السفر ثم بيع أثاث البيت، وصولًا إلى اتخاذ قرار مأساوي ببيع كليته. شخصية ترتفع وتهوي، تختبر حدود الكرامة والإنسانية، لكنها تظل متمسكة برغبة واحدة: النجاة.
تكمن قوة الأداء في أن سلام لا يبالغ، بل يترك الواقع يؤدي الدور نيابة عنه كل أزمة تواجهه تبدو مألوفة للمشاهد، وكل انكسار يمر به يشبه حكايات ملايين غيره.
شروق: صوت المرأة التي تتحمل ما لا يحتمل
تقدّم جهاد حسام الدين دور الزوجة شروق بمزيج من الصلابة والانفعال، رافضة أن تكون مجرد تابع في الحكاية.
شروق ليست زوجة تشكو، بل امرأة تصارع كي تحفظ الأسرة واقفة وسط عاصفة لا تهدأ. وتكشف إحدى أهم مفارقات العمل حين تطرد من وظيفتها، فيكبر الحمل على الزوجين معًا، ويزداد الانهيار المادي والإنساني.
الكوميديا السوداء كأداة تحليل اجتماعي
تعد الحلقة التي يضع فيها محمد «حبوب الإجهاض» في عصير زوجته، فيشربه والدها (كمال أبو رية) عن طريق الخطأ، نموذجًا ذكيًا لاستخدام الكوميديا للكشف عن مأزق أخلاقي واجتماعي.
كذلك مشهد ضياع أحد الأطفال في الميكروباص، ثم العثور على طفل آخر بالخطأ، يقدم تراجيديا شديدة القتامة لكن بضحك مبني على المفارقة لا على الإسفاف.
هذا النوع من الكوميديا السوداء الجارحة هو ما يمنح العمل نبرة نقدية من طبقة أعلى، لأنه يسخر من بنية مجتمع كاملة لا من أفراد بعينهم.
شوقي: الصديق الذي يضيء العتمة
يقدم حمزة العيلي أحد أمتع أدوار المسلسل عبر شخصية شوقي، الصديق المخلص الذي يحاول إنقاذ محمد من نفسه ومن واقعه. شوقي ليس مجرد ضيف كوميدي، بل هو عامل توازن درامي، يقدّم بوصلة أخلاقية وسط الفوضى، ويمنع بطل العمل من الانهيار الكامل سواء حين فكر في الإجهاض أو عندما قرر بيع كليته.
الأب: الذي يسرق المشهد بخفة ظل محسوبة
يقدّم الفنان القدير كمال أبو رية دور والد شروق، أستاذ الجغرافيا، كعنصر كوميدي أساسي ومحوري. يتميز أداء أبو رية بالهدوء والكوميديا الطبيعية غير المفتعلة، حيث تنبع الضحكات من تناقض شخصيته الأكاديمية ومحاولته تطبيق منطق علمي على فوضى الحياة اليومية.
ورغم ظهوره الثانوي في البداية، يتحول إلى قيمة أساسية في العمل، معتمداً على كوميديا الموقف
الإعلام والبيروقراطية… نقد علني لوجه آخر من الكارثة
تأتي حلقة البرنامج التلفزيوني لتكشف زيف الإعلام، إذ يمنع الزوجان من سرد مشكلتهما الحقيقية ويطلب منهما تقديم حلقة «خفيفة»، في نموذج فج لثقافة التجميل الإعلامي وإخفاء الأزمات خلف ابتسامات مصطنعة.
ثم يظهر نموذج البيروقراطية مع الوزير الذي كان على وشك مساعدة محمد لكنه يعفى من منصبه قبل توقيع القرار! مشهد يختصر آلية صناعة الفشل الإداري في الدولة.
بناء حكاية بسيطة بمغزى ثقيل
ينجح المخرج حسام حامد في الإمساك بخيط التوازن بين السخرية والوجع، من دون انزلاق إلى المبالغة الإيقاع سريع في لحظات، متوتر في أخرى، لكنه يحافظ على خط درامي واحد رجل يسحق ببطء.
أما الكاتب أحمد عاطف فياض فيبني نصًا يقدّم الأزمات كمادة تحليل اجتماعي ارتفاع الأسعار، الهجرة، تجارة الأعضاء، سرقة الأفكار الفنية، وهو يربط كل ذلك بخيط واحد فشل المنظومة في حماية الإنسان.
مأساة تضحكنا… بينما الواقع لا يضحك
«كارثة طبيعية» عمل لا يعتمد على الضحك من أجل الضحك، بل يحوله إلى أداة مقاومة. يذكّرنا بأن الكوميديا ليست نقيضًا للألم، بل هي شكله الأكثر صدقًا حين يصبح الواقع أكبر من الاحتمال.
المسلسل يقدّم رؤية فنية جادة بأسلوب ساخر، ويمنح المشاهد مرآة يرى فيها الحقيقة كاملة، حتى لو جاءت مرتدية قناع الضحك
