الجلسة الحوارية التي استضافها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي مع الممثلة الفلسطينية هيام عبّاس ، التي ادارتها الناقدة ناهد نصر، لم تكن مجرد حوار تقليدي، بل بدت أقرب إلى درس مفتوح في معنى أن تكون فنانًا يعيش بين الهويات، وأن يتحوّل الفن إلى وسيلة للتحرّر الشخصي والإنساني.
فالنجمة التي انطلقت من بيئة فلسطينية محافظة ومكبّلة سياسيًا واجتماعيًا، قدّمت عبر حديثها مسارًا يقرأ بوصفه شهادة على جيل كامل، عاش خوفًا مضاعفًا كونه فلسطينيًا وامرأة وفنانة في آن.
العبور الأول
حين قالت هيام إنها سافرت إلى أوروبا «ليس حبًا في الغرب، بل رغبة في التنفّس»، لم يكن ذلك مجرد تصريح عابر؛ بل تلخيصًا لسبب وجود فنانين كثر خارج بلدانهم. في تجربتها، يصبح السفر فعل مقاومة، ووسيلة للخروج من بيئة تسدّ أمام المرأة أبواب التجريب والمغامرة، انتقالها إلى لندن لم يكن انتقالًا جغرافيًا فقط، بل تحولًا في وعيها الفني، إذ فتحت أمامها المدينة فضاءات أداء لم تكن متاحة في فلسطين التي وصفتها بـ«المغلقة» في تلك الفترة.

بين الأمومة والتمثيل
كشفت عبّاس عن مرحلة ممتلئة بالتحديات، خصوصًا في مواجهة اللغة والاندماج، وفي الوقت نفسه خوض تجربة الزواج والأمومة، كانت تجربتها في هذا السياق كاشفة لفكرة أساسية: أن الحياة الشخصية ليست عبئًا على الفنان بل معملًا آخر لصقل التجربة، اللغة التي لم تكن تعرفها صارت أداتها، والأمومة التي جاءت في قلب غربتها تحوّلت إلى مصدر قدرة على النضج والتعاطف، الأمر الذي انعكس على تنوّع شخصياتها وتعمّقها.
جوهر الاختيار
تؤكد عبّاس رفضها للأدوار السهلة، وتذهب في حديثها إلى ما يشبه بيانًا فنيًا: «الحياة مركّبة وصعبة.. وهذا ما يجذبني»، هنا تتضح فلسفتها كممثلة لا تبحث عن البطولات السطحية، بل عن الشخصيات المتوترة، الجريحة، المتناقضة، تلك الأدوار التي تمنح أداءها القدرة على النفاذ وترك الأثر، ما تقوله عبّاس هو أن الأدوار المعقدة ليست مجرد تحدٍ تقني، بل اختبار لمدى صدق الممثل وقدرته على الغوص في طبقات الذات البشرية.
فلسطين التي لا تغيب
رغم قولها إنها لا تختار أدوارها بناءً على الهوية، إلّا أن مشاركتها في «باب الشمس» تكشف جانبًا آخر: لحظات يصبح فيها الدور نداءً شخصيًا، تأثرها العميق أثناء تذكّر النكبة، واستعادة قصة جدها الذي فقد عقله بعد خسارة بيته، يوضح أن الفن عند هيام ليس مسيرة مهنية فقط، بل امتداد لوجع جمعي ولتاريخ يتسرّب إلى اللحم الحي، شهادتها عن يسري نصر الله وإعجابها بشغفه، وكذلك شهادته هو عن قدرتها في الإخراج وتدريب الممثلين، تكشف عن فنانة لا تتعامل مع السينما كفعل فردي، بل كعمل جماعي تتشارك فيه الرؤية والمسؤولية.

ما وراء التمثيل
حين تحدثت عن دعمها لجيل الشباب، لم تتحدث من موقع «القدوة» التقليدي، بل من وعي بأن التجربة لا تكتمل إلا بتمريرها، نصيحتها: المثابرة، وعدم اليأس، وتثقيف الذات لغويًا وفنيًا… جاءت كخلاصة لمسار صنعته من العناد والمرونة في آن.
تكشف تجربة هيام عبّاس، كما ظهرت في الجلسة، عن فنانة تشكّل نموذجًا نادرًا: امرأة خرجت من جغرافيا مقيدة لتصنع فضاءها الخاص، ممثلة تتحرّك بين اللغات والثقافات دون أن تفقد جذورها، وحضور سينمائي يجمع بين هشاشة الإنسان وصلابة الفنان.
هي ممثلة تعيد تعريف معنى النجاح خارج شروط النجومية الصاخبة، وتثبت أن السينما – حين تصنع بصدق- تصبح جسرًا لعبور الشخصي إلى الإنساني، والفردي إلى الجمعي، والذاكرة إلى الفن.
