محمد قناوي
لا يأتي العدد 45 من مجلة المسرح العربي بوصفه عددًا دوريًا عابرًا، بل يمكن اعتباره بيانًا مسرحيًا عربيًا يشتبك بجرأة مع أسئلة الوجود المسرحي في زمن عربي مأزوم.
منذ افتتاحيته، يعلن العدد انحيازه إلى فكرة المسرح ككائن حيّ، متحوّل، عصيّ على التكرار، مستلهمًا مقولة هيراقليطس الشهيرة: «لا يمكنك النزول إلى النهر نفسه مرتين»، ليصوغ منها استعارة كبرى ترى المسرح نهرًا للحياة الإبداعية لا يتوقف عن الجريان
أولًا: الافتتاحية… المسرح كنهر وجودي
تؤسس الافتتاحية للكاتب المسرحي الإماراتي إسماعيل عبد الله رئيس مجلس الأمناء والأمين العام لـ الهيئة العربية للمسرح لرؤية فلسفية عميقة، لا تنظر إلى المسرح بوصفه ممارسة فنية فحسب، بل باعتباره فعل حياة ومقاومة للثبات. فالمسرح هنا ليس مكانًا ولا حدثًا موسميًا، بل طقسًا متجددًا، يختزن الذاكرة ويعيد إنتاجها باستمرار، الربط بين نهر النيل ومهرجان المسرح العربي يمنح الافتتاحية بعدًا رمزيًا: فكما كان النيل سبب قيام الحضارة، يراد للمسرح أن يكون سببًا في تجديد الوعي العربي، رغم ما يحيط به من جفاف ثقافي.
ثانيًا: «أسئلة المسرح»… تشريح الأزمة لا تجميلها
يعدّ باب أسئلة المسرح القلب النابض للعدد، حيث تتوالى النصوص التي تتعامل مع الأزمة المسرحية العربية بوصفها أزمة اعتبار، ووظيفة، ووعي.
في مقدمة هذه النصوص، يأتي مقال الكاتب والناقد البحريني يوسف الحمدان حول الوضع الاعتباري للفنان المسرحي في أوطاننا العربية كنصّ احتجاجي بامتياز، لا يكتب الحمدان من موقع الحنين، بل من موقع الغضب الواعي، مقدّمًا صورة «المستوحد بالمسرح»؛ ذلك الفنان الذي يعيش في عزلة قاسية، محاصرًا بالتهميش المؤسسي، وسط هيمنة المسرح التجاري الاستهلاكي، المقال يتجاوز الشكوى إلى فضح بنية ثقافية كاملة تكافئ الرداءة وتقصي الجدية، وتجعل من المسرح فعل تضحية فردية لا مشروعًا مجتمعيًا.
وتتجاور هذه الرؤية مع مقالات تناقش: أزمة النقد المسرحي العربي وارتباكه المنهجي والمصطلحي للكاتب المغربي جواد عامر، سؤال الصوت والصدى: هل يملك المسرح العربي صوته الخاص أم يكتفي بترديد الآخر؟ للكاتب الاردني حست أبو دية والكاتبة العراقية سحر حسب الله ، وأزمة المسرح في فلسطين والخليج، حيث تتقاطع السياسة مع الجغرافيا مع إشكاليات الإنتاج والهوية، للكاتب المصري ابراهيم الحسيني والفلسطيني راضي شحادة
ثالثًا: الدراسات… بين التأصيل والتحوّل
باب الدراسات في هذا العدد يكشف عن وعي أكاديمي متقدّم، لا ينغلق في التنظير الجاف، بل يسعى لربط الفكر بالممارسة. فنجد دراسة للناقد المصري أحمد حميس تتناول: الرهان الواقعي والعبثي في مسرح محمد سلماوي، بوصفه نموذجًا للتوتر بين الالتزام والبحث الجمالي.
ودراسة للدكتور رياض موسي سكران من العراق لتجليات الثقافي والتاريخي في نصوص الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، حيث يتحول التاريخ إلى مادة درامية حية ، أما د.عزوز بن عمرو من الجزائر، فيقدم دراسة عن “سينوغرافيا المكان في المسرح الجزائري، بما تحمله من خصوصية بصرية ودلالية”.
وأخيرًا، دراسة لافتة للناقدة المغربية حسنية بلحمين حول تحولات المسرح في زمن الرقمنة، تطرح سؤالًا مركزيًا: هل تمثل التكنولوجيا ولادة جديدة للمسرح أم تهديدًا لهويته القائمة على اللقاء الحي؟
هذه الدراسات تكشف أن المسرح العربي يقف اليوم عند مفترق طرق: بين التأصيل في التراث، والانفتاح على التحولات التقنية، دون أن يفقد جوهره الإنساني.
رابعًا: قراءة العروض… النقد بوصفه مقاومة
في باب قراءة في العروض المسرحية، لا يكتفي النقاد بتقييم العروض، بل يعاملونها كنصوص مفتوحة على التأويل. تتناول القراءات جدلية الحرية والعبودية، وإعادة كتابة الأسطورة (كما في قراءات «أوديب»)، وتجارب تحديث الفرجة المسرحية عبر تبئير التراث اللامادي، اللافت هنا هو محاولة استعادة الدور المعرفي للنقد، بوصفه شريكًا في إنتاج المعنى لا تابعًا للعرض.
خامسًا: الحوار والنصوص… المسرح يتكلم بصوت الممارسة
تأتي الحوارات لتؤكد أن الأسئلة المطروحة في العدد ليست تنظيرًا مجردًا، بل صادرة عن تجارب حيّة، أما النصوص المسرحية المنشورة في العدد، القادمة من اليمن والمغرب والسودان، فتشكّل دليلًا حيًا على تنوّع الأصوات العربية، وقدرتها على تحويل القلق والتمزق إلى مادة إبداعية.
عدد يكتب بيانًا لا أرشيفًا
يمكن القول إن العدد 45 من مجلة المسرح العربي لا يهدف إلى توثيق حال المسرح العربي بقدر ما يسعى إلى محاكمته فكريًا، هو عدد يكتب من داخل الأزمة، لا من هامشها، ويؤمن بأن المسرح، مهما بدا ضعيفًا أو مهمشًا، يظل أحد آخر فضاءات السؤال الحر في الثقافة العربية.
إنه عدد يذكّرنا بأن المسرح العربي، مثل النهر، قد يضيق مجراه أحيانًا، وقد تعكره الشوائب، لكنه لا يتوقف عن الجريان،لأن التوقف يعني الموت، والمسرح– كما يصرّ هذا العدد – لا يزال حيًا، مهما اشتدت العتمة
