«لقد وصلنا إلى القاع… بل إلى قاع القاع». ليست هذه جملة انفعالية، بل توصيف دقيق لواقع مختلّ وصلت إليه العلاقة بين الفن والصحافة، حين ترتكب أخطاء فادحة ثم تلصق ظلمًا بمهنة لا ذنب لها.
الصحافة بريئة مما جرى مع الفنان أحمد الفيشاوي في عزاء والدته، وبريئة أيضًا مما حدث مع الفنانة ريهام عبد الغفور في العرض الخاص لفيلمها الجديد «خريطة رأس السنة»، فهذه الوقائع لا تمت للعمل الصحفي المهني بصلة، ولا تعكس تقاليده أو أخلاقياته.
المشكلة الحقيقية تكمن في خلط صارخ – وأحيانًا متعمد – بين «الصحفي»، سواء في صحيفة مطبوعة أو إلكترونية، و«صاحب الصفحة» على مواقع التواصل الاجتماعي، الذي لا تربطه في أغلب الأحيان أي صلة بمهنة الصحافة، خلطٌ بين من يعمل وفق قواعد مهنية ومسؤولية تحريرية، ومن يلهث خلف تريند أو سؤال مستفز لا علاقة له بالفن أو بالحدث.
الأخطر أن هذا الخلط لم يعد حالات فردية، بل تحوّل إلى نهج واضح في كثير من العروض الخاصة والمهرجانات في مصر والوطن العربي، وبموافقة – بل بطلب – من بعض الفنانين، الذين يفضلون أصحاب الصفحات والمؤثرين على الصحفيين المهنيين، اعتقادًا بأن عدد المتابعين أهم من قيمة السؤال، وأن الضجيج أعلى صوتًا من التحليل.
شخصيًا حضرت عروضًا خاصة لم أجد فيها صحفيًا واحدًا، بينما امتلأت القاعات بأصحاب الهواتف المحمولة، وبأسئلة لا تمت للفن أو السينما أو العمل المعروض بأي صلة، أسئلة هدفها الوحيد إثارة الجدل أو اقتناص مقطع سريع للتداول على مواقع التواصل الاجتماعي.
وما يحدث في العروض الخاصة يتكرر – للأسف – داخل عدد من المهرجانات في مصر والوطن العربي، حيث يتم التعدي على «كوتة» الصحفيين في التغطية الإعلامية، لصالح صناع محتوى لا ينتمون إلى المهنة، في مشهد يسيء إلى الصحافة بقدر ما يسيء إلى الفن ذاته، والأدهى أنك إن كنت صحفيًا مهنيًا، وصفحتك على مواقع التواصل الاجتماعي «عادية»، يتم استبعادك، واستبدالك بآخر يسبق اسمه لقب «مؤثر» بدلًا من «صحفي»، وكأن المهنة اختُزلت في عدد المتابعين لا في الخبرة والمعرفة والمسؤولية.
هنا تصبح الإهانة مزدوجة: إهانة للصحافة حين تدان زورًا، وإهانة للفن حين يحاصر بأسئلة سطحية وممارسات غير مهنية، فالصحافة لم تكن يومًا عدوًا للفنان، بل شريكًا حقيقيًا في صناعة الوعي والنجاح، لكنها حين تقصى، تعلو الفوضى، ويصبح الابتذال قاعدة، والخطأ مشهدًا معتادًا.
المطلوب اليوم ليس مهاجمة الصحافة، بل الدفاع عنها، وإعادة الاعتبار للمهنة، وللصحفي، وللسؤال الحقيقي الذي يطرح في مكانه الصحيح .. فالصحافة، مهما حاول البعض تشويهها، ستظل أشرف من أن تختزل في «تريند»، وأعمق من أن تدان بأخطاء لم ترتكبها.
ويبقى السؤال الذي لا يجوز الالتفاف حوله: من الجاني الحقيقي فيما وصلنا إليه؟ هل هم الفنانون الذين استسهلوا المشهد، وفضّلوا أصحاب الضجيج على أصحاب المهنة، وفتحوا المجال لمن لا يميّز بين سؤال صحفي ولقطة تريند؟ أم المنظمون الذين تخلّوا عن أبسط قواعد العمل الإعلامي، وتعاملوا مع التغطية الصحفية باعتبارها عبئًا يمكن استبداله بأي هاتف محمول وعدد متابعين؟ أم بعض الصحفيين الذين قبلوا بالأمر الواقع، وصمتوا طويلًا، وتركوا المهنة تسحب من تحت أقدامهم دون موقف حاسم؟
الحقيقة القاسية أن الجميع شريك بدرجات متفاوتة، لكن الصحافة ليست الجاني .. بل الضحية، ضحية فوضى، واستهانة، وتواطؤ بالصمت أحيانًا، وبالمجاملة أحيانًا أخرى.
