نورا أنور تكتب : «فات الميعاد» دراما من لحم ودم ومشروع بصري في أدق تفاصيله

في وقتٍ تعاني فيه الدراما التلفزيونية العربية من التكرار والافتعال، يأتي مسلسل فات الميعاد ليطرح سؤالًا وجوديًا حول جوهر الفن: هل يمكن لصورة صادقة أن تزيح أقنعة التزييف عن الوجوه؟ هذا ما فعله المخرج سعد هنداوي في عمله الدرامي الذي تحول إلى مشروع بصري وفلسفي مكتمل الأركان، حيث اندمج النص مع الكادرات، وانصهر الأداء مع التكوين، وأصبحت كل تفصيلة ــ مهما بدت صغيرة ــ تحمل أثرًا دلاليًا ودراميًا.

الأفيش… ما وراء «بوكيه الورد»

منذ لحظة الإعلان عن المسلسل، بدا أن هناك نوايا إخراجية واعية تعمل في الخلفية. خذ مثلًا أفيش المسلسل: للوهلة الأولى يبدو تقليديًا، يتبع أسلوب “بوكيه الورد” في عرض الشخصيات، حيث تتزاحم الوجوه في تكوين واحد. لكن المدهش أن هذا التكوين ــ رغم نمطيته الظاهرة ــ يعكس بشكل دقيق شبكة العلاقات المعقدة التي سيفككها السرد لاحقًا.

تتوسط البطلة “بسمة” (أسماء أبو اليزيد) المشهد، بعينين يملؤهما الذعر، تنظر إلى مستقبل مشوش، بينما يقف على يسارها “مسعد” (أحمد مجدي) بملامح التملك، لا الحب؛ وعلى يمينها “معتصم” (أحمد صفوت) بنظرته الحنونة الحامية. الألوان والملابس تضيف طبقة بصرية: الأبيض والأسود في ملابس معتصم يرمزان للتوازن، بينما الأحمر في ملابس مسعد إشارة واضحة إلى العنف والرغبة.

حتى الشخصيات الثانوية في الأفيش مصفوفة بحس سيميولوجي دقيق: “عبلة” الأم المتسلطة تظهر في موقع يميني يوحي بالخبث المتوقع، و”منعم” شقيق مسعد يقف كـ”ثور هائج”، مذكّرًا بشراكة الظلم العائلية، بينما تتناثر بقية الشخصيات كخلفية تفيض بمآسي الطبقة المتوسطة، المحشورة بين طموح لا يتحقق وواقع لا يُطاق.

 

النص… كتابة بمشرط جراح

السيناريو الذي كتبه الثلاثي ناصر عبد الحميد، عاطف ناشد، إسلام أدهم تحت إشراف محمد فريد يتميز برشاقة سردية نادرة، تُعيد للدراما المصرية مذاقها القديم: حوارات واقعية، جُمل قصيرة تحمل معاني كثيفة، ودراما تنبع من الشخصيات لا تُفرض عليها. “بسمة” لا تبتسم رغم اسمها، و”مسعد” لا يحمل أي سعادة بل هو متخبط، غاضب، ويمارس عنفه كبديل للعجز.

الكتابة تنفتح على قضايا اجتماعية بالغة الحساسية: العنف الأسري، مشاكل الحضانة، الإدمان، البطالة، تآكل القيم العائلية، وقوانين الأحوال الشخصية. ولا تقدمها بطريقة وعظية أو مُباشرة، بل تغزلها داخل نسيج القصة، وكأننا نكتشف هذه المشاكل من الداخل، لا نُلقى بها من الخارج.

الأداء… مسرح داخلي كامل

من النادر أن تجد في مسلسل مصري هذا القدر من التناغم بين ممثلين مختلفي الخبرات. أحمد مجدي في دور “مسعد” يقدم واحدة من أكثر شخصياته نضجًا: جسد، وصوت، وحركة، وانفعالات مضبوطة على إيقاع رجل مأزوم يتأرجح بين الجريمة والندم. سلوى محمد علي في شخصية “عبلة” كانت ساحرة في خبثها؛ وأحمد صفوت أعاد اكتشاف نفسه في دور “معتصم”، رجل يحمل النُبل والحنان، ولكنه ليس مثاليًا.

الشخصيات الثانوية كذلك نالت ما تستحقه: محمد علي رزق ترك بصمة لا تُنسى في دور الأخ الفوضوي السلبي، وقدّم أداءً جسديًا خالصًا حتى في تفاصيل مثل “أسنان صفراء” أو “شعر منكوش”، في تعبير صادق عن طبقة مسحوقة تتخبط دون بوصلة. كذلك أبدع عماد إسماعيل في دور “طارق”، وكأن وجهه وحده يروي قصة مجتمع عنيف يبرر خياناته باسم المصالح.

سعد هنداوي… المخرج الذي يرسم بالكادر

لكن أعظم إنجازات المسلسل هو المخرج سعد هنداوي. هذا الرجل لا يخرج مشاهد، بل يرسم لوحات. كادراته مليئة بالمعنى البصري، تلعب بالألوان والمواقع والإضاءة بذكاء نادر. في مشهد وفاة والدة “بسمة”، يرسم كادرًا يوازي بين “المصحف والسبحة” على يمين المتوفاة، وصورة زفافها مع الأدوية على اليسار، وكأنه يضع الحياة والموت في ميزان تصويري فني.

في مشهد آخر، نرى كرتونة أدوية مكتوب عليها “Utopia: the life you deserve”، بينما يهرّب الأبطال المواد المخدرة، وكأن المخرج يهزأ من أحلام المدينة الفاضلة التي تتحطم تحت وطأة الديستوبيا الواقعية.

حتى الإضاءة والملابس توظّف لصناعة المعنى. الزي الأزرق في السجن الذي يفتقد كلمة “نزيل” ــ رغم أنه هفوة إنتاجية ــ لا تقلل من قوة تكوين كادرات الزنزانة، التي تعكس شعور المسجونين بالعبور نحو العدم. كل تفصيلة، من السيجارة إلى نوع البنطلون، تؤدي وظيفة تعبيرية. هذا ليس ديكورًا، بل سرد بصري.

التشريح النفسي والإنساني… «أنا الخير والشر معًا»

من أعظم إنجازات فات الميعاد أنه لا يدين أحدًا بسهولة، بل يتعامل مع الشخصيات كبشر: فيهم الشر، والخير، والندم، والرغبة، والكراهية، والحب. يتعامل مع “بسمة” كامرأة لا ضحية مطلقة، و”مسعد” كرجل مشوه لا شرير كرتوني. هنا لا توجد أبيض وأسود، بل طيف واسع من الرماديات الأخلاقية والوجدانية.

وهنا تظهر براعة الكتابة مرة أخرى: كل شخصية لديها حكايتها، دوافعها، وقضيتها، حتى ولو لم تكن البطلة. الجميع أبطال في هذا العالم الذي يشبه حياتنا.

قانون الأحوال الشخصية في المرآة

واحدة من أعمق تأثيرات المسلسل هو وضعه لقوانين الأحوال الشخصية تحت المجهر. فهو لا يتعامل معها كقوانين جامدة، بل كأدوات تستخدم وتستغل من أطراف الصراع. كل حلقة تقريبًا تكشف ثغرة قانونية أو تعقيدًا بيروقراطيًا يستخدم ضد الأطفال والنساء في معارك الحضانة والميراث والانفصال.

وبدون شعارات أو خطاب مباشر، يطرح المسلسل أسئلة حارقة على المشرّعين: هل تعكس قوانيننا واقعنا؟ هل تحمي الضعفاء؟ أم تخدم الأقوى في معركة شرسة بلا ضمير؟

الجمال غير المُصفى

ما يميز فات الميعاد ليس فقط الصدق، بل جمال الصدق. الشوارع التي لم تجمّل، البيوت التي لم تلبّس، الملابس التي تخرج من قلب الواقع، اللهجة، الإيقاع، وحتى المشاعر ــ كلها عناصر صنعت عملًا يمكن وصفه بأنه دراما من لحم ودم.

المسلسل لا يعدنا بمدينة فاضلة، ولا يغرقنا في قبح العالم؛ بل يضعنا في مكان بينهما: حيث يوجد الإنسان، بخيره وشره، بضعفه وقوته، بتناقضاته التي تشكل شخصيته.